قمة مختلفة وتاريخية

سوف يحسب للقادة الخليجيين أنهم فى قمتهم الأخيرة فى »أبوظبى« قدموا للعالم العربى قمة مختلفة وغير مألوفة على مستوى الشكل والمضمون. تناسبت مع الأحداث الجسام والصعبة التى تمر بها منطقتنا، فعلى مستوى الشكل، حضر القمة كوفى عنان ـ السكرتير العام للأمم المتحدة ـ وعصمت عبدالمجيد ـ الأمين العام للجامعة العربية ـ وعزالدين العراقى ـ أمين منظمة المؤتمر الإسلامى ـ واستمعت القمة إلى زعيمين عالميين، أحدهما هو الزعيم الإفريقى نيلسون مانديلا ـ رئيس جنوب إفريقيا ـ والآخر أرسل رسالة وهو الرئيس الفرنسى جاك شيراك، وكان حضورهما بمثابة شهود على الخليج ليريا أن مجلس التعاون الخليجى يتغير، ويشهد مرحلة جديدة فى تاريخ حياته.
يؤكد خلالها زعماء الخليج التزامهم بالسياسات العالمية، ويحاولون أن يخرجوا من خلال قمتهم من أسر حرب الخليج الثانية، وما شكلته من متاعب سياسية واقتصادية للمنطقة، ولعل هذه الرؤية تأخذنا إلى المضمون مباشرة وهو ما عكسته كلمة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رئيس دولة الإمارات ورئيس القمة، حيث طالب بوضوح بعودة القمم العربية، وأن تكون ملزمة وبانتظام وليست قمماً طارئة.
وكان حكيماً كعادته، فطالب أن يساند العرب بعضهم البعض، فى إشارة لم يصرح بها إلى العراق، وما يعانيه شعبه من ويلات المجاعة، مؤكداً أن مهام الحكومات هى إسعاد البشر والمطالبة بالاستقرار للجميع، ملمحاً إلى الشعب الفلسطينى ـ بدون تصريح ـ ولكن فى كلمات محددة جذبت انتباه الجميع لصدقها وشمولها، ثم كانت كلمة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولى العهد السعودى ورئيس وفدها للمؤتمر فى الجلسة المغلقة خير مؤشر إلى التغييرات المهمة التى تشهدها منطقة الخليج العربى، فلأول مرة بانفتاح سياسى ورؤية شاملة يقول الأمير عبدالله إن حقبة الطفرة قد انتهت، وطالب بالاعتماد على القطاع الخاص فى تحمل جزء كبير من دور الدولة والمشاركة الفعالة بين القطاعين العام والخاص، وطالب دول الخليج بأن تلعب دوراً أكثر فعالية للحدِّ من الأزمة الاقتصادية الناجمة عن انهيار أسعار البترول.
وفى إطار مواجهة دول الخليج للأزمة البترولية لم يقتصر الأمير عبدالله على طرح صريح للأزمة، بل صاحبها بروشتة جديدة ومختلفة، أعلن فيها قبول بلاده ودول الخليج بالسياسات العالمية للتعامل فى التجارة وعولمة الاستثمار، ولكنه تحفظ فى نفس الوقت على قبول فكرة عولمة الفكر الفاسد، وشخص الأزمة وحدد صورة المستقبل بأنه لن يكون بدون تعاون اقتصادى إقليمى فعال وطالب بقيام اقتصاد خليجى موحد، مشيراً إلى أنه السبيل الوحيد للبقاء فى غابة المصالح الاقتصادية العالمية، ولم يفوته أن يعلن عن أمله فى أن يشهد لقاء القمة المقبل السوق الخليجية الموحدة.
عودة للقمة ومستقبل الخليج تكشف أن الهاجس الاقتصادى الناجم عن انهيار أسعار البترول قد شكل محور قمة »أبوظبى« وأن الدول الخليجية قد خرجت بالفعل من تأثير الأزمة الإقليمية الداخلية للخلافات بين دولها، والمناوشات الحدودية، والسعى إلى معاقبة العراق، والتأكيد على الثوابت التقليدية، إلى مواجهة أزمات المنطقة والمطالبة بحلول واقعية وفعالة للأزمة، فقد ظهرت اتجاهات عاقلة بالنسبة للعراق للتمهيد إلى رفع العقوبات ورفع الحصار بعد التأكد من خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل التى تسبب القلق لكل جيرانه وللمجتمع الدولى.
وظهر بوضوح أن الدعوة لتبنى السياسات العالمية للاقتصاد ستفتح المجال واسعاً أمام التجارة والاستثمارات الخاصة سواء للشركات الخليجية المستثمرة فى الخارج أو الشركات العالمية وأن مستقبل الخليج يتجه إلى إيران دعوة صريحة للتعاون مع القطاع الخاص وزيادة دوره الاقتصادى وما سيتتبع ذلك من تطور سياسى قد تشهده المنطقة، فالاعتماد على الاستثمارات الأجنبية بكل أشكالها سيفتح منطقة الخليج أمام التطورات العالمية الاقتصادية خاصة وأن هذه المنطقة تشكل بؤرة الاهتمام العالمى، وأنه ليس من الممكن أن نتركها تواجه أزمات اقتصادية وبطالة وعجزاً فى موازينها، ولكن الصورة قد تتغير فى المرحلة اللاحقة أمام السياسة الاقتصادية الجديدة التى كشفت عنها القمة، وهى ضرورة ربط اقتصاديات دول الخليج بالاقتصاد العالمى وبتطوراته الكبرى.
وأن قمة »أبوظبى« ستؤرخ عملياً بالتطورات الاقتصادية الهامة فى دول الخليج، فكما شهدت هذه المدينة الجميلة الصحراوية التى تحولت إلى مدينة خضراء وجميلة بفعل سحر النفط وإرادة حكامها، ولادة دول مجلس التعاون الخليجى منذ ٨١ عاماً، فقد شهدت التحولات الاقتصادية المهمة ولعل أبرزها اعتراف الخليجيين بانتهاء مرحلة الطفرة الاقتصادية وما يعقبها من زوال عصر الرفاهية وتدليل المواطنين إلى تقشف والاعتماد على الذات ومن دخول عصر الصعوبات الاقتصادية والبحث عن بدائل اقتصادية للنفط، لعل أهمها الاتحاد وظهور الأسواق المشتركة والتخلص من العمالة الأجنبية والاستدانة الخارجية.
إن العصر الجديد والمختلف لدول النفط الغنية سيكون درامياً ومهماً ولذلك حرص قادته على أن يدعو العالم ليشهدوا على اتخاذهم للقرارات الصعبة وليكونوا شهوداً على العصر الجديد.