قمة المسئولية

بكل الواقعية والمسئولية نحدد معا أن قمة العرب 2000 فى القاهرة، كانت قمة مسئولة وواقعية، لم تنح منحى هروبيا كالآخرين الذين آثروا الصراخ والعويل والتهييج العاطفى، محاولين اكتساب شعبية مؤقتة، بتبنيهم خطاب الجماهير العربية، فالقمة لم تلجأ إلى خطاب »العنتريات« وتقع فى الفخ الإسرائيلى، الذى كان متشبثا بالهروب من استحقاقات مرحلة السلام، وإلقاءالمسئولية كاملة على القادة العرب، الذين قد يقعون أسرى الشارع، ولا يقودونه كما هو متوقع من القائد، لكنها كانت قمة فى حدود المستوى المعقول . رفضت أسلوب الماضى من الشجب والإدانات والعنتريات، وفضحت سياسة دق طبول الحروب، وكشفت المستفيدين منها، فهى قمة فرضها الشارع العربى حقيقة، كما جاءت فى وقتها بالضبط، لتبرهن على حيوية أمة العرب ووحدتها، وقدرتها على الفعل فى وقت الأزمات والشدائد، بل للحظات الحاسمة تجىء حركة الشارع العربى بناءعلى انتفاضة الأقصى وشهداء وجرحى فلسطين العزيزة، فقرارات قمة أكتوبر تقول بوضوح إن هناك أمة عربية تملك قادة وحكماء يستطيعون صياغة رؤيتهم وتحديد مسارهم، وأثبتت أن مساحة القول والفعل العربيين قد اقتربت إلى حد كبير، بصورة تؤكد أن المصداقية والقدرة ستكونان سمة القرار العربى المستقبلى، بشكل يعزز مكانة النظام العربى الراهن لدى الرأيين العالمى والعربى .
ولننتقل من التعميم إلى التخصيص لنحدد الصورة بدقة .
إن القمة كانت صريحة بتأييدها لانتفاضة الشعب الفلسطينى، ومنح هذا الشعب حق رفض الهزيمة وعدم قبول الأمر الواقع، وحق الحرية على أرضه لطرد الاحتلال، وقررت دعم الانتفاضة سياسيا واقتصاديا وماديا ومعنويا، معترفة بأن طريق التسوية لا يعنى الاستسلام لإرادة المعتدى، بل تعطيه حق المقاومة فى ظل هذا المسار أو المخاض الصعب .
إن القمة قررت محاصرة إسرائيل إقليميا وأوضحت بجلاء أن العلاقات الراهنة معها أصبحت مهددة بعدم الاستمرار، وإن كانت هناك بعض العلاقات المستمرة، فإنها تصب فى مجرى محاصرة إسرائيل أمام الرأى العام العالمى وحماية الانتفاضة داخليا، وعدم ترك الفلسطينيين محاصرين وحدهم بين فكى الآلة العسكرية الإسرائيلية المتوحشة، وأن هناك سيفا مسلطا على إسرائيل، وهو قطع هذه العلاقات أو هذا الخيط الرفيع، الذى كان يربط حلقات التسوية الممتدة منذ 22 عاما . وعدم قطع خيطها النهائى، بما يعنى فتح باب الفوضى والإرهاب، فمن يقطع هذا الخيط الأخير، سيفتح باب جهنم فى الشرق الأوسط .
والإنذار الراهن الذى لا تخطئه عين فى العالم هو أن إسرائيل تتحمل مسئولية هذه التحولات الدرامية فى منطقتنا، وإنها هى التى تنقل الصراع العربى ـ الإسرائيلى من مرحلة التسوية إلى الصراع مرة أخرى .
وأن العرب الذين قبلوا السلام كخيار للتعايش الإقليمى فى قمة 96 قادرون على كظم غيظهم، وعدم الانجراف إلى ما تدفعنا إليه الهمجية الإسرائيلية عندما تفتح الباب للصراع العربى ـ الإسرائيلى، ليكون صراعا دينيا ليس على مسرح الشرق الأوسط فحسب، لكن العالم كله أينما يكون فيه مسلمون ومسيحيون يواجهون يهودا فى أى بقعة من العالم .
قمة القاهرة كشفت عن القوة الكامنة فى الأمة العربية، فالقوى ـ حقيقة ـ هو الذى لا يلجأ إلىتأجيج الصراع مباشرة لأنه يعرف خطورة الحروب الدينية وسرعة اشتعالها، ويعرف جيدا ضعف إسرائيل واليهود تحديدا فى هذا الصراع، لأنه لن يعتمد على العسكرية والتكنولوجيا الأمريكية المتقدمة فقط، بل ستكون مسرحه الشوارع والمعابد، وكل مكان فى العالم .
قمة القاهرة أعطت لإسرائيل والعقلاء فى أمريكا وأوروبا واليابان والعالم شرقه وغربه فرصة تدبر الأمر، ودراسة الموقف الراهن، حيث هناك حكومة صغيرة فى إسرائيل غير قادرة على فهم العملية السياسية، وروح التسوية السلمية، فهى تديرها وكأنها معركة عسكرية، وفى حالة فشلها فإنها تحرق كل الأرض، بل تبتلع كل ما تحقق على الأرض من مسار صعب ومخاض طويل وقاسى لعملية التفاوض وبناء الثقة، الذى بدا ممكنا بين القيادات، وينتقل تدريجيا بين النخب فى الشارع، فإذا بهؤلاء القادة الصغار الذين يحكمون إسرائيل يحرقون كل شىء، ويدمرون ما حققه الآخرون فى صراع مرير من أجل التعايش السلمى ويسلمون المنطقة بسهولة إلى دعاة الحرب حتى آخر عربى ويهودى معا .
القمة والانتفاضة أعادتا مسيرة التسوية السلمية، إذا كان من الممكن أن تعود ـ لو وجدت عقلاء على المسرح العالمى ـ إلى مسارها السليم، فالتفاوض هنا سيصبح له مرجعية وهى الشارع العربى والنظام العربى، الذى أصبح لايقبل أقل من الحد الأدنى الذى أقرته قمة 96 وأكدت عليه قمة 2000 الأرض مقابل السلام، ودولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، واسترجاع كل الأرض العربية المحتلة فى 67، وأن هناك مرجعيتين الآن هما الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن، ورؤية الشارع العربى وقدرة النظام العربى على الدفاع عن المصالح العربية والفلسطينية، التى لم تصبح وحيدة أو معزولة فى مواجهة القوى الإسرائيلى والأمريكية .
فالصراع الآن خرج من دوائر الجيوش إلى طاولات المفاوضات، بل أصبح فى الشارعين العربى والعالمى، وهذا إنجاز حقيقى حققه الدم الفلسطينى الغالى فى انتفاضة وثورة وحرب أكتوبر 2000، التى كتبت ملحمة جديدة للعرب، وتضيف إلى انتصار أكتوبر 73 انتفاضة أكتوبر 2000 ومتغيراتها المتلاحقة على الأرض .
أعتقد أن هذه القمة من أعظم انتصارات العرب وقدراتهم الخلاقة، فقد كشفوا عدوانية وهمجية الإسرائيليين أمام العالم، وكيف أن الجيش العسكرى الإسرائيلى يقاتل الأطفال والشباب وسلاحهم الحجارة، ويستأسد على الضعفاء، ويفرض حصار التجويع على شعب محتل .
إسرائيل أصبحت صغيرة وضعيفة أمام العالم وفى نظر الجميع، والانتفاضة انتصرت، والقادة العرب أصبحوا حكماء، يديرون صراعا صعبا، يجنب العالم ويلات الانهيار، ويكظمون غيظهم، ويحمون مصالحهم، ويحذرون الجميع، وهم يملكون كل أدوات الصراع والحرب والتدمير التى تحرق الجميع وتخرب الاقتصاديات العالمية .
لكنهم يحذرون فقط .
إننا نتطلع إلى أن يكون هناك فى العالم، قادة حكماء متبصرون، وقادرون على سبر رؤية العرب وقدرتهم، أقول ذلك بكل أمانة وبعدم تحيز للعرب، فهم يثبتون دائما أنهم الأكثر عمقا وقدرة وفهما وسط الصعوبات والملمات، والأزمة الراهنة فى الشرق الأوسط تعد من أكثر أزمات العالم تعقيدا وصعوبة لأنها تدخل فى صميم العقيدة والدين، بل الوجود الفعلى للإنسان .
هل من عقلاء يسمعون قبل أن يختفى العقل، وتبدأ الهجمة الشرسة والصراع الدامى فى مخاطبة ما هو أسوأ فى الإنسان من الهمجية والدموية فى أرض الديانات ومهبط الرسالات . . اللهم أمين.