سلام الوديعة

عندما خرج كلينتون فى واشنطن ليعلن عن إتمام اتفاق فى الشرق الأوسط، يتضمن بدء المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية فى عاصمة بلاده، تم الاتفاق بين الطرفين بدور رئيسى، لوزيرة خارجيته »أولبرايت« فى المنطقة، لم يكن الإعلان مفاجأة، لكن المفاجأة كانت فى مستوى التمثيل المرتقب لمباحثات رئيس الوزراء الإسرائيلى باراك، أو الشخصية الإسرائيلية الأولى صاحبة القرار فى الدولة العبرية، ومعه نظيره السورى، أو من يمثله فاروق الشرع ـ وزير الخارجية ـ مستوى التمثيل، وطريقة الإعلان عن بدء المفاوضات بواسطة الرئيس الأمريكى كلينتون بنفسه، عكست وضعا متغيرا،
شعر المجتمع الدولى بأن هناك تصورا مرتقبا، وأن قطار السلام الشامل يستعد لمغادرة المحطة التى توقف عندها، عندما أوقف عجلتها نيتانياهو ـ رئيس الوزراء السابق ـ فالمفاوضات لم تبدأ فقط، بل بدأت من النقطة التى وقفت عندها، كما حدد الرئيس الأمريكى، فى إعلانه عن المفاوضات الأخيرة للسلام فى الشرق الأوسط، وهى المفاوضات التى سلم فيها رئيس الوزراء الراحل إسحاق رابين بالحقوق العربية للفلسطينيين والسوريين واللبنانيين، لكى يستكمل حلقات السلام التى تمت بين المصريين والأردنيين، وهى التى سميت بـ »وديعة رابين«. والتى دفع ثمنها حياته، وجىء على إثرها بنقيضه، لكى يوقفها.
وهكذا فإن ما جرى فى إعلان المفاوضات بين سوريا وإسرائيل، كان إعلانا بأن الزمن الذى توقف فى منطقتنا بعد انتخاب نيتانياهو قد انتهى، وأن عجلة القطار التى انزلقت عن قضبانها فجأة، قد تم إصلاحها، وأن قطار السلام يراوح مكانه، ولم يكن ممكنا أمام كل الأطراف المعنية إلا أن ترحب بما يحدث، فالقرار بإقامة السلام قد اعتمده الجانب العربى كله، فى آخر قمة عربية عقدت فى المنطقة، وأن عقبات السلام لم تكن عربية، بل كانت كلها إسرائيلية، وضعتها حكومة إسرائيلية منتخبة من التيارات المعادية للسلام، التى شعرت بخطورته عليها، فأقدمت على جريمة اغتيال رابين، ثم صوتت ضد السلام، وانتخبت حكومة معادية له، لم تستطع أن تكمل مدتها، وسقطت معلنة أن من يقف ضد التيار العالمى السائد لا يستطيع الصمود، وسيسقط إن آجلاً أو عاجلا، وأن الحركة الجمعية تزيحه دائما، بعد أن يكون قد عطل المسارات أو أوقفها،
لذا فعلينا ألا نتوقع أن تكون القوى المعادية للسلام فى إسرائيل قد خفت صوتها أو قلت مقاومتها، ورغم يقينى بانتصار السلام، فإننى لا أخفى خوفى من قدرة القوى المعادية للاستقرار والسلام فى إسرائيل، وأنها تستطيع أن توقف عجلاته مرة أخرى، بل مرات كثيرة، لذا فإن قوة السلام وقدرته لن تكون إلا بالتنسيق والدعم العربى للمفاوض السورى واللبنانى، كما كانت دائما مع الفلسطينيين، ولهذا لا أخفى إعجابى بزيارة وزير خارجية مصر عمرو موسى إلى سوريا، ومقابلته وزير خارجيتها »الشرع«، قبل لقائه مع باراك فى واشنطن، لكى يعلن دعم مصر لسوريا، وبهذا الإعلان الواضح فإن العرب جميعا يقفون فى الخندق السورى، ويستعدون لاستعادة الحقوق وتحقيق السلام الصعب.
السلام بين سوريا و إسرائيل هذه المرة لا يجىء بالشروط الإسرائيلية التى تفرضها، والتى طالبت بإعادة التفاوض من نقطة الصفر، أو بسلام اللعب على الأجنحة، أو استغلال التناقضات العربية، فقد أصبح واضحا لإسرائيل أن الخلافات العربية ليست فى الاستراتيجية، أو فى تحقيق الأهداف، لكن فى طريقة تحقيقها، فالسوريون يعرفون جيدا أن مفاوضات الحل النهائى مع الفلسطينيين تحتاجهم بشدة، وحتى يتفرغ العرب كلهم لسلام يستعيد القدس، ودولة فلسطين المستقلة، يجب أن يحصلوا على الجولان وجنوب لبنان، وأن الكل لن يتقدموا نحو المفاوضات متعددة الأطراف، بدون الحقوق المشروعة ، واستعادة الأرض المحتلة قبل ٤ يونيو ٧٦٩١، فتلك هى شروط الحد الأدنى للسلام المرتقب.