قمة لما بعد السلام

ألقيت محاضرة فى السفارة السعودية فى القاهرة بدعوة كريمة من سفيرها إبراهيم السعد البراهيم، فى إطار الموسم الثقافى الذى ينظمه بمناسبة اختيار الرياض عاصمة ثقافية، وكانت فرصة لى لكى ألتقى بالنخبة السياسية والاقتصادية فى البلدين فى حوار شيّق، انتقلت خلاله من السياسة إلى الاقتصاد إلى مستقبل المنطقة العربية فيما بعد السلام.
وكان محور حديثى هو أن السلام قادم فى المنطقة العربية، فقد كشفت مفاوضات كامب ديفيد الثانية عن أن أمريكا وإسرائيل أصبحتا تعرفان أكثر من غيرهما أنهما لا تستطيعان هضم القدس وتغييب بعدها العربى، وأن ما تفعلانه هو المحاولة الأخيرة فى سباق المساومات العالمية لاقتطاع أجزاء من الجسم الفلسطينى، واستغلال حالة وضع اليد الإسرائيلىة على الأراضى العربية المحتلة فيما بعد 1967 أسوأ استغلال ممكن لتحقيق مكاسب فى الأرض على حساب الحقوق العربية المشروعة، والشرعية الدولية ألزمت إسرائيل قانونيا قبل أن تبدأ العملية السلمية، واستطاع المفاوض الفلسطينى التعبير عن إرادة الأمة العربية ومصالحها فى القدس وعودة اللاجئين والأمن والمياه.
والنقاط الحساسة بكاملها، وضعت على طاولة المفاوضات، وتم فتح الصناديق والعقول المغلقة، التى استسهلت سنوات طويلة، عدم الاقتراب ومناقشات هذه القضايا الشائكة، وكأنها ترى أن عدم المناقشة وإعمال العقل لمواجهة هذه المعضلات سوف يحلها، وأن الزمن كفيل بوضع الحلول، وسوف يحسب للمتفاوضين والرئيس كلينتون أنهم خاضوا فيما كان ممنوعا ومتروكا فى الماضى، ولسنوات طويلة، وقد وضعت هذه المباحثات على أبواب الحل، ولعلنا لا نغالى إذا قلنا إن الأحداث فى إسرائيل فجرتها هذه المفاوضات،
وإن الائتلاف الحاكم فى إسرائيل برئاسة باراك، لن يستطيع أن يتآلف مرة أخرى عقب عودة الكنيست من إجازته الصيفية، قبل أن يتوصل إلى حل حاسم فى قضايا الصراع العربى ـ الإسرائيلى، وتحديدا علاقاتهم بالفلسطينيين واعترافهم بدولتهم المرتقبة، وبالتسليم بالسيادة العربية على القدس فى المسجد الأقصى، وكنيسة القيامة، فيما فوق الأرض، وفيما تحت الأرض، أى أن البلدة القديمة فى الحى الأرمنى وفى القرى الفلسطينية شمال وشرق البلدة ستعود إلى الدولة الفلسطينية المرتقبة، وأن فشل المفاوضات كان ضرورة، لتكوين ائتلاف حكومى إسرائيلى قادر على اتخاذ القرار.
وقد شرحت أن المنطقة العربية محصنة بالتعاون الحاسم سياسيا بين مصر والسعودية، وأن التقاء القيادتين على دعم الرئيس عرفات واسترداد الأقصى، كان واضحا فى مباحثات كامب ديفيد الثانية، وأن المفاوض الفلسطينى عبر عن عدم قدرته على اتخاذ هذا القرار فى هذه القضية الحساسة والصعبة دون العودة إلى مصر وسوريا والسعودية، وفى هذا الجانب كان متسقا مع نفسه، ومع هدف السالم، فالهدف إقليمى لاستقرار المنطقة ككل، ولتحقيق الرخاء للشعوب صاحبة السلام فى الأساس، وقد طالبت فى حوارى مع النخبة المصرية ـ السعودية بالانتباه إلى أن المنطقة العربية مقبلة على قرار إستراتيجى صعب ومهم مثل قرارها التاريخى الذى اتخذته فى قمة 1996 فى القاهرة، باعتبار السلام خيارا إستراتيجيا للشعوب العربية، هذا القرار أعطى الاتفاقيات التى عقدت قبل هذا القرار مشروعيتها سواء الاتفاق المصرى ـ الإسرائيلى أم الأردنى ـ الإسرائيلى، ثم اتفاقيات مدريد وأوسلو التى فتحت طريق السلام الفلسطينى ـ الإسرائيلى، والتى فتحت الباب أيضا للمفاوضات السورية ـ الإسرائيلىة التى حققت انسحابا إسرائيليا من جنوب لبنان، حيث أصبح واضحا أمام الإسرائيليينأنهم أمام الاعتراف العربى بالسلام لا يستطيعون الاحتفاظ بالأرض طويلا، خاصة أمام المقاومة الباسلة.
وشرحت أن عملية السلام سوف تحقق أهدافها فى حصر الأطماع الإسرائيلية فى الأرض العربية، وستؤدى إلى حدود واضحة بين العرب والإسرائيليين فى الأرض والمياه والأمن.
وأرى المرحلة القادمة أكثر صعوبة وحساسية من المرحلة الماضية من الصراع العربى ـ الإسرائيلى، فالعرب فى حاجة ماسة الآن لكى يتخذوا قرارا إستراتيجيا جديدا، بفتح حدودهم لحركة رءوس الأموال والأفراد والسلع والخدمات، بقرار سياسى، يضمن مصالح العرب أمام شركائهم الإقليميين الجدد، سواء أكانوا الإسرائيليين أم الإيرانيين أم الأتراك.
إننا قبل أن نجلس مع الجميع، يجب أن يكون هناك اتفاق عربى يضمن حرية الحركة للأفراد، وعودة لرءوس الأموال المهاجرة فى الخارج التى وصلت إلى100 مليار دولار، فى حين أن المنطقة تعانى تدنى مستوى المعيشة واقتصادها أصبح ضعيفا، وقد طالبت الحكومتين المصرية والسعودية بالانتباه إلى أنهما فى حاجة إلى اتخاذ هذا القرار الذى يسمح بحركة واسعة للسوق بينهما، وأن تكون هناك اندماجات للشركات فى البلدين ـ وللبنوك تحديدا ـ لمواجهة المخاطر الاقتصادية لفتح الأسواق حتى لا تنهار الاقتصاديات العربية الضعيفة أمام حركة هبوب الرياح العالمية القادمة.
والعرب فى حاجة ماسة إلى قمة لتحديد شكل تعاونهم المستقبلى مع بعضهم البعض ومع جيرانهم ومع التكتلات الاقتصادية العالمية، ليس فقط من أجل هذا الهدف الحيوى، لكن لإعطاء زخم وبعد لأهمية التنمية المشتركة وفتح باب الأمل، أمام أحزمة الفقر المنتشرة حول جسم الأمة العربية حتى لا تقع فريسة للتطرف والإرهاب، خاصة أن السلام لن يكون هو نهاية المطاف، لكنه سوف يكون عنصرا حاسما أمام الأنظمة السياسية فى أن تبدأ مرحلة جديدة لن تملك إزاءها إلا إعطاء كامل حقوق الشعوب السياسية والاقتصادية، ولاختفاء أى مبرر لتعطيل تحقيق هذا الهدف.