المعركة حول القدس

فجر الصراع على القدس، وفشل قمة كامب ديفيد بين الفلسطينيين والإسرائيليين المواقف شرق أوسطيا، وحدد مسارات المستقبل نحو السلام بل مستقبل المنطقة، ورغم الفشل والضجيج الذى صاحب القمة، إلا أننى أصبحت أكثر اقتناعا بأن طريق السلام سوف ينتصر، فالمفاوضات حول القدس هذه المرة وعدم تأجيلها كنقطة حساسة وصعبة إلى نهاية المطاف خوفا من الاقتراب منها، يعنى أن المتفاوضين أصبحوا أكثر جدية وقدرة على اتخاذ القرارات الصعبة ولم يكن ممكنا أو فى مصلحة السلام تأجيل المفاوضات حول القدس، إلا إذا كنا نبحث عن نصر سطحى، أو كان هدفنا إهداء نوبل إلى الرئيس كلينتون قبل رحيله من البيت الأبيض على حساب السلام، بل على جثته.
وقد ينجح كلينتون، ويحصل على جائزة سلام، لكن يجب أن تكون حقيقية، فالمواجهة التى تمت فى كامب ديفيد حول القدس، وضعت الحقائق أمام البيت الأبيض، وأمام إسرائيل، وعرف كلينتون وباراك أن السعى إلى السلام الحقيقى لن يكون على حساب القدس أو بابتلاعها إسرائيليا، وذلك أول مكسب تحقق فى كامب ديفيد وكان يجب أن يتحقق فى أوسلو فى 93، فالقدس يجب أن تكون أولا، وليس أخيرا، والقدس والتسليم بحقوق الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمسيحيين فيها هى بوابة السلام، وفاتحة الاستقرار الإقليمى للمنطقة، وهى النقطة الأولى لسلام الشعوب، وليس لسلام الحكومات أو الجيوش.
البحث الحقيقى عن السلام، كنا نتصور أنه هدف أمريكى ـ باعتبارها الراعى لا المتحمسة لإرضاء الحكومات الإسرائيلية ـ سيكون له الأولوية، فإذ بنا نكتشف أن تهافت الرئيس كلينتون على تحقيق نصر رخيص فى كامب ديفيد دفعه لكى يعقد الأمور على الولايات المتحدة، بل على إسرائيل نفسها، ويدفع شعوب المنطقة فى المستقبل إلى الاقتتال مرة أخرى، بتلويحه وتهديده بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
كلينتون هنا يعيد تذكير العرب بأن معركتهم ليست ضد إسرائيل فقط، لكن أيضا ضد بعض المجموعات الأمريكية التى تتطوع للدفاع غير المشروع عن إسرائيل، لكسب أصوات المتحمسين من اليهود، ولا يملكون الموضوعية والمراجعة والفهم الصحيح لمستقبل السلام ولمصالح ووجود اليهود فى المنطقة، وقد عفا الزمن على هذا الأسلوب، وأصبح مكشوفا حتى أمام الجماعات اليهودية الأمريكية نفسها، وأصبحت لا تقبله، لأنه لن يحقق مصالحها الحقيقية فى النهاية، والتى هى مع السلام.
فهناك الآن فى إسرائيل نفسها كتابات تشي إلى أن كلا الطرفين يجب أن ينظر إلى القدس نظرة أكثر موضوعية وشجاعة، بل إن من مصلحة إسرائيل أن يشعر العالم الإسلامى بأن الأماكن المقدسة إسلاميا ومسيحيا فى القدس ليست تحت السيطرة الإسرائيلية.
مفاوضات كامب ديفيد ـ بالرغم من أنها لم تتوصل إلى اتفاق نهائى، إلا أنها من أنجح جولات التفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لأنها كشفت المواقف الحقيقية ، وتخلصت من المساحيق التى أخفت الوجوه القبيحة، والمواقف الصعبة التى يجب أن تواجهها كل الأطراف فى المستقبل إذا أرادت السلام والاستقرار لجميع بلدان المنطقة.
لقد تحددت الصورة وأجابت المفاوضات عن الأسئلة التى يجب أن تواجهها كل الأطراف بشكل عملى، بعيدا عن الشعارات أو أوهام الأمانى الطيبة.
إن مفاوضات كامب ديفيد رغم فشلها، إذا وعى الإسرائيليون والفلسطينيون والأمريكيون كل جوانب الصورة ومعطيات المستقبل الإقليمى للشرق الأوسط، فإنها ستكون نقطة الفشل التى يعقبها النجاح والبناء الصحيح الذى لا يسقط.
يجب على إسرائيل وأمريكا أن تستشعرا بالفعل خطورة ترك القرار فى المنطقة للتطرف بكل أشكاله ورموزه.
ففى حالة فشل الفلسطينيين فى إقرار سلام عادل يكفل لهم قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية بكل ما تمثله كرمز دينى إسلامى ومسيحى، فإن القرار فى المنطقة سوف يصبح فى يد المتطرفين فى المنطقة، وسينضم إليهم المعتدلون، وسنكون جميعا معهم، وتلك هى منطقة الخطر، التى ستهدد السلام الإقليمى، وعندها ستقف إسرائيل وأمريكا عاجزتين عن التعاون مع شعوب المنطقة، وسيسود اليأس من أن يمتد السلام والتعاون إلى الشعوب، ووضع حد للصراع العسكرى، وسيفتح الباب واسعا لاشتعال الحرب بين الشعوب وتلك أخطر أنواع الحروب.
والذى يجب أن تفهمه إسرائيل، والنصيحة الخالصة التى يجب أن نقولها للأمريكيين إن كل المصالح ستكون مهددة ولا يمكن حمايتها أو الدفاع عنها، فقدسية المسجد الأقصى وكنيسة القيامة للمسلمين والمسيحيين، تكفى لإشعال الشرق الأوسط، وتهديد السلام العالمى، فى الوقت الذى لا يزال التطرف فيه محصورا الآن فى جماعات صغيرة.
إن القوى الحقيقية المتحكمة فى المنطقة والتى تسيطر على مجرى القرار، مازالت واعية للمصالح الحقيقية للسلام الإقليمى، وقادرة ـ بحكم سياستها الواعية والعاقلة ـ على كسب مزيد من المؤيدين للسلام، وإدارة الدفة بوعى وحكمة، بل إنها استطاعت إبراز قوى السلام فى إسرائيل وتشجيعها على فتح قنوات الحوار لمصلحة المنطقة، ويجب أن يحسب ذلك للعقلاء والحكماء الذين يضعون مصالح الشعوب قبل المكاسب السياسية الرخيصة.
كامب ديفيد الثانية، كانت ضرورية لجميع أطراف العملية السلمية لتحقيق المكاشفة والمصارحة، التى حدثت بنجاح كبير، وتحسب للجميع قدرتهم على مواصلة التفاوض بهذا الدأب وتلك البراعة، كما يحسب لهم جميعا إيمانهم بقضية السلام، وأنهم خرجوا من المفاوضات الفاشلة ليواصلوا التفاوض فى كل مكان سواء الفلسطينيين والإسرائيليين معا، أم بمشاركة الآخرين، وتلك حقائق العالم المتغير، والأهم لنا هو إيمان الجميع بالسلام واستمراره.
لم تنجح المفاوضات فقط، بل نجح الزعماء والقادة الذين أداروها واكتسبوا ثقة شعوبهم، فهم لا يصنعون السلام لأنفسهم فقط، لكن يصنعونه للشعوب، ويجب أن تقبله الشعوب أولا.
وإسرائيل التى ستفوز بجائزة السلام يجب أن ترد الحقوق إلى الشعوب، وتقبل وتعترف بالدولة الفلسطينية، ولا تعقّد الأمور على قادتها وشركاء السلام معها، ويجب أن تعترف بالقدس الشرقية كجزء لا يتجزأ من الضفة الغربية كأرض محتلة، وتحترم مشروعية القرارات الدولية التى قننت عملية السلام وأعطتها مشروعيتها، فإسرائيل مطالبة بأن تقبل بالسلام العادل لشعوب المنطقة، وهو ما يلزمها برد القدس، بل أكثر من ذلك بالقبول بعودة الفلسطينيين اللاجئين فى المخيمات والشتات.
بل على إسرائيل أن تتدخل لدى المجتمع الدولى والتجمعات اليهودية الغنية لإقامة مشروعات اقتصادية تفتح باب الأمل أمام الفلسطينيين.
ذلك طريق السلام، وقد فتحته المفاوضات، ولن يغلقه الفشل، بل سيحدوه الأمل فى النجاح.