سعود الفيصل ومؤتمره الصحفى

كانت لحظة مفاجئة ـ بالنسبة لى ولزملائى الصحفيين الموجودين فى الرياض لمتابعة أحداث قمة نهاية القرن لدول مجلس التعاون الخليجى، »القمة العشرون« ـ أن دُعينا إلى مؤتمر صحفى عاجل فى منتصف الاجتماعات، وبعد اليوم الأول فقط، وكل من تابع مؤتمرات القمة الخليجية يعرف أن المؤتمرات الصحفية والتصريحات تجىء دائما فى اليوم الأخير، وعقب صدور البيان الختامى. وكان المؤتمر مع الوزير المخضرم الأمير »سعود الفيصل« ـ وزير الخارجية السعودى ـ الذى اشتهر بأنه الوزير الذى يقيس كلماته بدقة بالغة، ويعبر عن كل ما يريد دون أن يجرح، وكأنه يحمل مسطرة أو مشرطاً، ولا يميل إلى التصريحات النارية، وحدثنا أنفسنا جميعا ما الذى يريد الوزير أن يقوله؟ من المؤكد أن هناك حدثا مهما، سوف يعلن عنه، وكانت الأخبار تتناقل عبر الفضائيات، ووكالات الأنباء عن خلافات كبيرة بين دول الخليج حول التعريفة الجمركية، التى كان من المقرر أن يتم تطبيقها فى عام 2001، والخلافات كانت حول النسب المقترحة وموعد التطبيق للنظام الجمركى الموحد، وكانت تساؤلاتنا إذا دبت الخلافات حول هذه القضية، ولا أريد أن أُبَسِّطها أو أعقدها، لكنها بالقطع لن تكون أكثر صعوبة من قضايا شائكة أخرى إذا رغبنا أن نقيم سوقاً موحدة، وأن نتجه إلى فتح الأبواب لحرية انتقال العمالة ورءوس الأموال والسلع والخدمات، أو الاتجاه إلى عملة »الغولو« ـ العملة الموحدة ـ كما يخطط ويتجه التفكير.
ولم نسمح لأنفسنا بالاستطراد هل يعلن الأمير الوزير عن الخلافات وعدم القدرة على الحسم فى هذه القضية، التى كانت محور القمة التى شهدت قضايا أكبر وأعقد وأكثر حساسية، مثل التنسيق العسكرى والجيش الموحد، ودعوة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد، لتعزيز الكيان الخليجى، حتى يكون قادرا على مجابهة ما تشهده الساحة الدولية من تطورات اقتصادية، وما يفرضه تيار العولمة، الذى يحتم نشوء كيانات اقتصادية قوية، حتى لا نبقى متفرجين على التطورات التى تجرى فى ساحة الاقتصاد العالمى.
وكانت مفاجأة الأمير سعود الفيصل فى مؤتمره الصحفى دقيقة للغاية دول الخليج توصلت وأقرت بدء العمل فى النظام الجمركى الموحد، وسيطبق فى مارس عام ٥٠٠٢، وأن النسب الجمركية تم إقرارها بين ثلاث فئات سلع معفاة، وسلع أساسية نسبتها ٥.٥٪، وسلع أخرى ٥.٧٪، تلك السياسة العامة حسمت محاور الخلاف فى نقطتى موعد التنفيذ والنسب الجمركية، والأعمال الأخرى إجراءاتها طويلة وتحتاج إلى المتخصصين من رجال المال والتجارة، مثل المنافذ الجمركية، وتوزيع الإيرادات والتعويضات، وقوائم السلع، وتناقشها اللجنة المالية والتجارية، وكان وزير الخارجية السعودى محددا للغاية، وحاول الصحفيون جره إلى تصريحات عديدة، فرفض وتحصن بالنقطة الوحيدة التى جاء معبرا عنها بدقة.
ورغم شعورى أنا وزملائى بأننا خرجنا من المؤتمر بالقليل، ولم نحصل على الكثير، أو ما كنا نريده، فقد أيقنت فى داخلى حجم التغيير الذى حدث فى منطقة الخليج العربى، والرؤية المتغيرة التى تحدث، وكان أبرز المؤشرات هو قدرة الزعماء على تجاوز الخلافات، والخروج فى نفس الوقت بقرارات مصيرية ومحددة ومستقبلية، وسيكون لها تأثير كبير على مستقبل منطقتهم وشعوبهم، وهو ما يعكس رغبتهم الواضحة فى الانتقال إلى العمل المؤسسى، وهو رصيد كبير يحسب لهذه المنظمة الإقليمية بعد عقدين من العمل المتواصل، والقمم المتتابعة والمستمرة للتنسيق، وصياغة علاقاتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المستقبلية لدولهم الست.
وهذه النقطة رغم إيجابياتها لا تنفى أن تأخير تنفيذ الاتحاد الجمركى قد يجعل الزمن يسبقه، خاصة مع دخول دول الخليج جميعا منظمة التجارة الدولية (WTO) وتطبيقاتها الجمركية المتغيرة.
ثم جاء البيان الختامى، وإعلان الرياض، لكى يكرسا مفهوم التطورات الجديدة التى طرأت على منطقة الخليج وكيفية تعاملها مع القضايا الكبيرة، ولعل أهمها ما ذُكر حول العلاقات مع إيران، وهى المرة الأولى التى يخلو فيها بيان القمة من انتقاد إيران فى قضية الجزر الإماراتية، وتصور المراقبون أن هناك ميلا نحو إيران على حساب الإمارات، ثم كانت كلمات الأمير »سعود الفيصل« فى شرح هذه النقطة هى الأخرى، بكلمات حاسمة ودقيقة القمة أفسحت المجال للعمل الجدى على حل مشكلة الجزر الإماراتية بالتفاوض مع إيران، عبر تكليف اللجنة الثلاثية لبدء المفاوضات مباشرة بين الطرفين، ليس هناك تقليل من الأزمة، لكن القمة أخذت الأمور بجدية كاملة بتحديد الأهداف والعمل على الحل والتسوية، فالاهتمام هنا انتقل إلى الحل والحسم عبر التفاوض بديلا عن البيانات والانتقادات ثم التوقف بلا حلول أو عمل جدى.
ولعل أكثر نقاط البيان الختامى أهمية ما طرح حول مستقبل العراق وشعبه، وشعور دول الخليج بمعاناة الشعب العراقى، مؤكدة على عزمها مواصلة الجهود لرفع تلك المعاناة التى طال أمدها، والتأكيد الصريح على ضرورة الحفاظ على استقلال العراق ووحدة أراضيه وسلامته الإقليمية، بل والأهم، حيث بَرَّأ وزير الخارجية السعودى الأمير »سعود الفيصل« الشعب العراقى من المسئولية عن غزو الكويت، وكان التساؤل الذى طرحه الوزير، ويطرحه جميع العرب ماذا سيفعل العراق حتى يخرج من أزمته؟ الكل متعاطف ويريد الحل، لكن يبدو أن النظام العراقى هو وحده الذى لا يريد الحل، ولا يبحث عنه، لكنه يبحث عن التعقيد، وكأن الأزمة الحالية والمعاناة التى يشعر بها الشعب العراقى هى التى تزيد أمد هذا النظام فى الحكم وتعطيه القوة والقدرة على الاستمرار، لأن خروج الشعب من معاناته وظروفه المعيشية القاسية، ستجعله يتساءل بعد ذلك من صنع هذه الأزمة؟ وتجعله يطالب بالحساب، الذى قد يكون عسيرا، لا يستطيع تَحمُّله النظام العراقى الراهن؟
لكن موقف القمة رغم قوته وضغوطه، لم يحدد كيف يمكن مساعدة شعب العراق مع وجود النظام الحالى الذى يرفضونه، وبالتالى فهذه القضية الحيوية، مازالت تراوح مكانها، ومازالت تنتظر قمة أخرى للحسم.
كما أن هناك قضية أخرى مرتبطة بالتعاون الإقليمى وهى التى جاءت حول »إعلان دمشق« حيث أكدت القمة على أهمية تواصل العمل فى إطار دول الإعلان، متطلعة للاجتماع القادم، الذى سيعقد فى القاهرة، وكانت لغة صياغة هذه النقطة إنشائية ب درجة كبيرة، ولم توضح كيف سيتم ذلك، والدول الست تمثل الأغلبية فى هذا الإعلان، بالإضافة إلى مصر وسوريا، وكل المؤشرات تشير إلى أنه إعلان تم تجميده، أليست هناك أى خطط أو تفكير مستقبلى لشكل هذا التعاون؟ ولم يأخذنى تفكيرى بعيدا لأن خطط التعاون الاقتصادى الخليجى نفسه مؤجلة للمستقبل، ولتفعيل آليات الإطار المؤسسى الذى يجمع دول الخليج، أما بالنسبة للسلام، فبالرغم من أن البيان الخليجى استعرض كل التطورات، وثمَّن جهود كلينتون والاتحاد الأوروبى، وطالب بحق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته وعاصمتها القدس، فأعتقد أن كل المراقبين كانوا يتطلعون إلى دور أكبر للقمة الخليجية فى تعضيد حصول العرب على حقهم بممارسة ضغوط خليجية، والإعلان عن أن التعاون الإقليمى والعلاقات الاقتصادية لن تكون، إلا بعد تحقيق السلام الشامل واسترداد كامل الحقوق العربية.
لكننى أرى أن قمة الرياض العشرين صاغتها حكمة القادة والزعماء الخليجيون. ويحدوها طموح للتعاون الإقليمى القائم على أسس مؤسساتية، وقد تكون هناك رغبة كبيرة وعارمة لتسريع وتيرة التعاون ودمج شعوبنا واقتصادياتنا فى كيانات واحدة، حتى لا نبقى متفرجين على التطورات المتلاحقة التى تجرى فى ساحة الاقتصاد العالمى، أو نكتفى بردود الفعل، كما جاء فى صياغة البيان الختامى بدقة، بل نبادر للمساهمة بفاعلية ونأخذ دورنا فى بلورة وصياغة كيان خليجى واحد يتواكب ويتكامل بدعم الكيان الاقتصادى العربى المترابط، وأن نشاهد فى حياتنا ـ كما جاء فى البيان ـ وضع استراتيجية بعيدة المدى تتوجه نحو دعم خطوات التكامل الاقتصادى العربى ليحكم العلاقات بين شعوبنا والتكتلات الإقليمية والمنظمات الدولية، لكن دعنا نأمل ونتفاءل ولا نتشاءم ونحن على أبواب عام جديد وألفية جديدة.