مقالات الأهرام العربى

كلينتون فى غزة بين عرفات ونيتانياهو

عشنا جميعا لحظة هبوط الرئيس الأمريكي كلينتون وأسرته بطائرته »أيا كانت الطائرة« في مطار غزة.. هبط الرئيس واستقبله رئيس فلسطين بتواضع جَمْ.. وبلغة عصرية يفهمها العالم المتحضر، وقال عرفات لكلينتون تفضلوا علينا بقص الشريط، إيذانا بتدشين مطار غزة، ليخرج بالشعب الفلسطيني من ظلال حصار استمر ٠٥ عاما ـ في أسوأ ظلم وعدوان تعرض له الإنسان في القرن العشرين، ليصل بعد كفاح طويل إلي مشاركة رئيس أكبر دولة في العالم في قص الشريط مرات عديدة تعبيرا عن لهفة أمة تاقت طموحاتها للتحرير وتقرير المصير، وأن يعيش شعبها كباقي شعوب العالم.

ثم كان خطاب كلينتون أمام المجلس الوطني الفلسطيني وشاهد وسمع ـ كما شاهد معه ملايين العالم، وشعب إسرائيل عبر التليفزيون ـ لهفة ممثلي الشعب الفلسطيني للسلام العادل، رفعوا أيديهم، ووقفوا احتراما للسلام، رأينا أصحاب الحق والأرض يتنازلون ـ قبل أن يحصلوا علي حقوقهم ـ ويصوتون لكي يبرهنوا علي رغبتهم في العيش بسلام وأمن مع جيرانهم الذين اغتصبوا أراضيهم وحقهم في العيش، بل وآمالهم في الحياة.

إن شعبا هذا طموحه، يقاتل بالحجارة وبالأساليب القديمة، ويموت لكي يبرهن علي مقاومته.. هل من الممكن هزيمته؟

لقد شعرت وأنا أشاهد عرفات والفلسطينيين وهم يستقبلون كلينتون وعائلته في غزة، ثم وعرفات يهلل بأن الرئيس الأمريكي وقرينته وهيلاري كلينتون »التي اعترفت بالدولة الفلسطينية ـ قبل زوجها ودولتها« ومعهما ابنتهما تشيلسي ـ يحلون ضيوفا في بيت لحم »مدينة السيد المسيح«، وسط الأراضي المقدسة.. ومدن فلسطين وكلها مهد الأديان السماوية، ومَسْرَي الأنبياء، وأراض مقدسة، الصراع عليها مستمر، ولم ينته ـ حتي عندما ذهب كلينتون إلي بيت لحم، في محاولة أولي من جانب رئيس أمريكي، يقاتل من أجل أن يدخل التاريخ من باب مختلف عن باب »مونيكا«، وفضيحتها المدوية، ذهب إلي بيت لحم ليجعل سكانها وشعبها يشعرون بعيد الميلاد بعيدا عن كابوس الاحتلال وغياب الأمل.. وخرجت مدينة المسيح، وشاهدنا حجاجها يستقبلون الرئيس وقد غادروا منازلهم لأول مرة منذ سنوات عديدة.

في هذا الوقت الصعب ـ الذي يبذل فيه كلينتون مجهودا مضاعفا، رفع بالقطع رصيده لدي العرب، ولدي الإسرائيليين الراغبين في السلام من غير المتطرفين، وممثلي الأحزاب اليمينية المتعصبة الذين مازالوا يعيشون في الماضي السحيق، ويسيطر علي تفكيرهم عقد التميز والسيطرة، أصبح كلينتون أحد صُنَّاع السلام ـ غير المحظوظين ـ مثل كارتر مثلا ـ الذي صنع السلام المصري الإسرائيلي في كامب ديفيد في ٥١ سبتمبر ٨٧٩١، لأنه وجد شريكين قويين السادات وبيجين، أما كلينتون فهو يكافح منذ أوسلو »٣٩٩١«، وشارك عرفات ورابين في احتفال مهيب بالبيت الأبيض في سبتمبر ٣٩، كما شجع الأردنيين للوصول مع الإسرائيليين إلي اتفاقية في عام ٤٩٩١، وشارك ودعم ونظم لقاءات قمة اقتصادية للعرب والإسرائيليين لتمويل السلام ودعم الاتفاقيات، والحض علي المشاركة الاقتصادية.. واصل كلينتون دوره البارز حتي في أثناء وبعد اغتيال رابين في نوفمبر ٥٩٩١، في عرض واضح للدعم الأمريكي لإسرائيل ولعملية السلام، وفي أكتوبر الماضي كان رصيد كلينتون كبيرا في التوصل  ـ عبر شاطيءالواي ـ إلي اتفاقية جديدة أحيت وجددت الأمل في السلم بين الفلسطينيين والإسرائيليين.. ثم رحلته في ٤١ ديسمبر إلي غزة.. وخطابه البارع أمام المجلس الوطني الفلسطيني ـ الذي كان اعترافا واضحا بالشعب، وأملا متجددا في الدولة ـ وتصريحا بحق تقرير المصير، واعترافا بالمظالم التي وقعت علي الشعب الفلسطيني والأمة العربية، لكن حظ كلينتون كان عاثرا ومازال، لأنه يتعامل مع نيتانياهو ـ وليس  مع بيجين »مثل كارتر« أو  مع »رابين«، عندما بدأ مسيرة السلام.

أما نيتانياهو فإن جسمه الضخم ـ لا يعفينا من القول بأن قامته أقصر، ولا يقدر علي السلام وتحمل تبعاته.. فقد ثبت ـ بما لا يدعو للشك ـ أن القدرة علي السلام تحتاج إلي طاقة وإلهام ـ وقادة شجعان يملكون القدرة علي اتخاذ القرار وتغيير مسار البشرية والطموح، إلي تغيير الواقع المؤلم والظروف الصعبة.. هذه المؤهلات لا يملكها ـ بالقطع ـ نيتانياهو ـ ومن هنا وصفنا كلينتون بأنه صاحب الحظ العاثر، لأنه برغم نجاحه الاقتصادي في أمريكا وشجاعته في الإدارة السياسية، فإن ذلك لم يمنعه من أن ينزلق في حادث شخصي مؤسف ألقي بظلاله علي تاريخه السياسي ككل.. رغم أن رصيده في السلام والسياسة كان من الممكن أن يجعله فريدا وأن يحقق ما لم يحققه سابقوه، ولكنه لم يصادف شريكا كبيرا وقويا وقادرا علي التفكير والإلهام، ودفع العربة والمسيرة إلي الأمام..

أما الرئيس عرفات ـ بالرغم من احترمي لما يبذله الآن.. ومجهوده الصلب ـ فإنه يريد أن يصل إلي الدولة الفلسطينية سريعا، وقد حقق الكثير وفتح المطار، وسيفتح الميناء، وسيصل إلي طريق الأمان.. لكن الطريق مازال صعبا، وأعتقد أنه سيصل إلي الدولة، لكن ليس في عصر »نيتانياهو«، وإن كان يكفيه أنه استطاع في خمس سنوات للسلام أن يحقق الكثير ـ أكثر مما تحقق عبر ٥٤ عاما من الصراع ـ والأهم أنه كشف المتطرفين الإسرائليين، ووضع الحقائق أمام الرأي العام العالمي، وعري التعنت والاعتداء الإسرائيلي، وكسب حب واحترام العالم، ولا يملك إلا أن يواصل طريقه وكل الآمال أن يحظي بدعم وتأييد جميع الشعب الفلسطيني، حتي يتمكن من اجتياز العقبات القادمة، ويصل إلي مرفأ الدولة الفلسطينية التي بالقطع ستغير خريطة الشرق الأوسط.. وتضع شعوبه في مناخ  وبيئة مختلفة جديدة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى