الأب والابن والوديعة

الأب.. هو »حافظ الأسد«.. الزعيم السورى الذى رحل عن دنيانا بعد أن سطّر اسمه فى سجل الخالدين من الزعماء العرب الذين لعبوا دورا، بل أدوارا كبيرة فى حفظ وبناء الدولة السورية، وتعظيم مكانتها العربية والإقليمية، بحيث جعلت قلب الشام ينبض بقوة عربيا.
والابن »بشار الأسد« الرئيس السورى المرتقب، الذى يخلف والده فى حكم سوريا، وإدارة دورها الإقليمى المؤثر، الذى وضعها فيه والده الراحل، مكتسبا شرعية والده منذ أن بدأ فى إعداده لهذا اليوم، ومنذ أدرك الرئيس الراحل طبيعة مرضه، وبعد أن فقد ابنه »باسل«.
والوديعة هى سوريا ودورها ومكانتها بين القائدين الرئيس الذى رحل (69) عاما بعد (30) عاما فى الحكم، والابن الرئيس الشاب (34) عاما الذى جاء بخلفية والده، وبعد تعديل دستورى مثير تم على عجل، ليمكن الرئيس المعد من تبوؤ مكانته الدستورية الجديدة.
الأب.. أصبح فى ذمة التاريخ ودوره كان محور الأحداث، ولم يستطع حتى منتقدوه أن يخفوا إعجابهم بشجاعته وقوة عقله وقدرته الفذة على الإمساك بالسلطة وتحقيق أهدافه، وأن ينجو من أصعب وأشد المعارك ويخرج منها محاربا عظيما، وسيصبح نموذجا لما يتعرض له السياسيون والقادة من ظروف وانهيارات ونجاحات سياسية، وكانت جائزته كما أرادها تماما عند الوداع جنازة مهيبة، لا يمكن إعدادها عقليا أو تنظيميا. لكن أعدتها الجماهير بعفوية وحب واحترام عكس ما يشعر به الشعب تجاه الرئيس حافظ الأسد، وهذه الجماهير التى خرجت عن بكرة أبيها فى سوريا ولبنان أقوى من الاستفتاءات، بل صناديق الاقتراع. وحق علينا ـ سواء قبلنا أم رفضنا ـ أن نحترمها، لأنها حركة جماهيرية عارمة عبرت عن حبها واحترامها ورضائها عن أداء الرئيس الراحل حافظ الأسد، وطلبت ورغبت وانتخبت خليفته الرئيس المرتقب بشار الأسد، وأعطته شرعية جماهيرية تسبق أى شرعيات أخرى حصل عليها د. بشار، فالجماهير قبلته لأنه ابن الأسد الذى أحبته، ولأنه اختياره، وهى تثق فى قائدها، كما أن الرئيس الجديد قَدِم للجماهير وسجله نظيف، ورصيده أنه ابن العصر الجديد، وترجمت الجماهير رغبتها فى شعار بسيط، لكنه صادق »إنه الأمل فى المستقبل«.
أما الوديعة فهى سوريا الغالية قلب الشام، قلبنا كله معها، فالحزن لم يمنع الكبرياء، وكشف معدن الجماهير التى خرجت تلوح بقدرة العرب، و قدرة السوريين على الصمود، فسوريا تستحق سلاما عادلا، تستحق مستقبلا أفضل، سوريا تستحق تقديرا أكبر، هذه رسالة الشعب، ونستطيع أن نلمس أن كل من شاهد الشعب السورى أدرك مكانة وقدرة هذا الشعب.
سوريا الآن فى مفترق طرق ـ والأكثر تحديدا أن الطريق معروف ومحدد، وسوف يسلكه الرئيس الجديد ـ بشار الأسد ـ وكل التوقعات تشير إلى قدرته على النجاح فى ولوج العصر الجديد المختلف.
فالذى يقوى ظهر الرئيس المرتقب أن الطريق الذى يسلكه خَطَّه والده، ووضع استراتيجيته، والصحيح تماما أنه لم يستطع أن يسير فيه بقوة، ليس لأنه غير مقتنع أو متردد. لكن الظروف الإقليمية والعالمية لم تكن قد تبلورت بعد، كما أن طبيعته الشخصية التى تشكلت فى سنوات الصراع والتحدى جعلته حذرا وصبورا، أو كأن القدر أراد أن يعطى ابنه أو الجيل الجديد أعمالا كبرى وشرعية جديدة تزيد التفاف الجماهير حولها، وتكسبه الثقة والمكانة العالية.
سوريا تنتظر نظاما جديدا عصريا ديمقراطيا، يرتبط بالعصر الجديد، والاقتصاد السورى بدأ فى التحول والانفتاح ودخول مرحلة التحرر. لكن بقدم خائفة، بعد أن عاشت سنوات طويلة فى ظل نظام اقتصادى اشتراكى جامد، وكانت تتحول لكن ببطء، والمرحلة القادمة ستشهد دخولا لهذا الاقتصاد المرتب داخليا، فى مرحلة جديدة ومختلفة، وبالقطع فالرئيس بشار الذى يركز على عصر المعلومات والتكنولوجيا سوف يستخدمها فى تطوير الآلة الإنتاجية، ورفع كفاءة وقدرة الاقتصاد، لتحقيق مستوى معيشة أعلى وترتيب البيت الداخلى السورى بكفاءة واقتدار اقتناعا بأن حقوق الإنسان السورى تسبق ما عداها من المعارك والطحن السياسى الذى عاشته بلاده، تحت نير الصراع السياسى، ولعل قدرته فى أثناء حياة والده على إدارة معركة الفساد السياسى داخل الحكومة والحزب والجيش، قد رفعت من أسهمه وقدراته السياسية على تفعيل الملف الاقتصادى والإدارى ورفع كفاءة الدولة، وتحقيق طموح الشعب فى عصر جديد، فقد كسب الأسد الراحل وابنه معركتين فى خلال الفترة الماضية.
الأولى البدء فى معركة التغيير الداخلى وكشف الفساد وتثبيت أركان الحكم، والقدرة على تقديم ابنه للخلافة بدون معركة تذكر، بل بشبه إجماع بين السياسيين الكبار وأعضاء الجيش والحزب، إذا استثنينا محاولات شقيق الرئيس الراحل رفعت الأسد ـ نائب الرئيس السابق والموجود فى الخارج ـ وهى معركة تأثيرها إعلاميا فقط وغير مؤثرة، أو هى معارضة غير حقيقية.
أما المكسب الثانى والمهم، فكان الانسحاب الإسرائيلى من جنوب لبنان وتحريره، وتم هذا المكسب بعد فشل إسرائيل فى »لخبطة« الوضع فى لبنان وتعقيد الأمور على سوريا داخل لبنان، فكانت النتيجة أن حصلت سوريا على شرعية أكبر فى لبنان، وأكدت وجودها وأعادت وربطت المسارين السورى والبنانى فى إطار واحد.
وأمام الرئيس المرتقب، إعادة تأكيد العلاقة الخاصة بين سوريا ولبنان، بإرادة وحب الشعب اللبنانى ورغبته وبدون تأثير فى الوجود العسكرى فى لبنان، ونعتقد جميعا أنه سائر فى هذا الاتجاه، فهو يحظى باحترام وتقدير اللبنانيين جميعا.
والأهم هو السير فى طريق السلام، وإعادة الجولان، وقد قطعت سوريا فى مفاوضاتها أكثر من %80 من النقاط، وتشير كل التوقعات إلى قدرة سوريا على استكمال المفاوضات، وستبرز قدرة الرئيس الجديد على النجاح فى تحقيق السلام، واسترداد الجولان، وهو الهدف الذى سعى إلى تحقيقه حافظ الأسد. لكن لم تمهله الأيام، فقد سبقته إرادة الله، لكن سوريا ورئيسها الجديد قادران على تحقيق هذا الهدف الذى سيفتح الطريق أمام سوريا لمستقبل جديد.