السلام الغالى

كنت أتمنى ألا تعقد قمة جديدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية كلينتون وفى عصره، بعد أن فشل فى قمته الأخيرة مع الرئيس السورى الراحل حافظ الأسد فى جنيف، لأن هذه القمة أثبتت عجز الرئيس الأمريكى، وأنه دخل المنطقة الكسيحة، وأصبح بالفعل »بطة عرجاء« غير قادر على ممارسة أى نوع من الضغط على إسرائيل وحكومتها، بل إن كلينتون وأولبرايت عجزا عن تقديم النصيحة، والمشورة العاقلة لحكومة إسرائيل، حتى تخرج من مأزقها التاريخى، وتتكيف مع عصرها، وتتفق مع جيرانها، وتنتهز الفرصة التاريخية التى تمنحها المنطقة لإسرائيل لكى تعيش فيها. وتحصل على اعتراف إقليمى بوجودها يعزز مكانتها الدولية، ويجعلها تخرج للعالم مع الألفية الجديدة بروح مختلفة قد تساعدها على تغيير شكلها ودورها المستقبلى.
أما وقد عقدت القمة بالفعل فى منتجع كامب ديفيد ونتائجها أصبحت معروفة للعالم. وهذا العدد بين أيديكم، فأيا كانت نتائجها فإن الحسم سيكون على أرض الواقع، وليس بما توصل إليه الطرفان محور الصراع التاريخى، وبرعاية القوة الكبرى، الشاهد المؤثر والقادر على أن تتبين حقيقة الأمور ومسارها، وكامب ديفيد الثانية سوف تصبح رقما وتاريخا مهما يضاف إلى السلسلة الطويلة للتواريخ المهمة فى الصراع الطويل والدامى، ولم تكشف القمة عن قدرة القادة الحاليين فى إسرائيل وأمريكا وعن إمكاناتهم فى حسم هذا الصراع، وفتح الباب للاستقرار الإقليمى فى الشرق الأوسط، بل اقتربنا من نقطة الانفجار، فإذا تتبعنا السلسلة سنرى.
فى 1948. الحرب الأولى بين العرب والإسرائيليين تسببت فى خروج اللاجئين الفلسطينيين بعد زرع دولة إسرائيل فى المنطقة.
1964. ظهور منظمة التحرير الفلسطينية، ثم بروز شخص ياسر عرفات ـ فيما بعد ـ رئيسا وممثلا للشعب الفلسطينى.
1967. استيلاء إسرائيل على الأراضى العربية، بما فيها الضفة وقطاع غزة، وبدء بناء المستوطنات الإسرائيلية فى المناطق المحتلة، كما بدأت المقاومة العربية على كل الجبهات، وظهر تأثير الفدائيين الفلسطينيين على مجريات الأمور فى الأراضى المحتلة.
1973. انتصار العرب وعبور المصريين قناة السويس وإزالة خط بارليف فى سابقة عسكرية فريدة غيرت عددا من المقاييس فى المنطقة، وفتحت الطريق أمام تفاوض سياسى من موقع متساو يعكس قدرة المنتصرين.
1978. المصريون والإسرائيليون يتوصلون فى حضور وشهادة الرئيس الأمريكى »كارتر« فى كامب ديفيد الأولى إلى إطار عمل للسلام الصعب بين مصر وإسرائيل، وما يميز هذه الاتفاقية أنها لم تكن مقصورة على البلدين فقط، كما توصلت مصر إلى اتفاق يضمن حقوق العرب فى كل الأراضى المحتلة وحق تقرير المصير للفلسطينيين وإقامة دولتهم المستقلة، كما يضمن حقوق العرب فى القدس المحتلة، ومنذ هذا التاريخ شهدت العلاقات بين البلدين مدا وجزرا حتى تمكنت مصر من استرداد كامل أراضيها بالقتال والتفاوض والتحكيم الدولى فى سابقة تاريخية، تشهد للمصريين بالتسلح بكل الإمكانات والنفَس الطويل، والدفاع المستميت عن كامل ترابهم وقدرتهم على حشد المجتمع الدولى، وتعرية كل الحجج الإسرائيلية، وصولا إلى كامل حقوقهم، وعدم التخلى عن حقهم فى الدفاع عن الأراضى العربية المحتلة، خاصة حق الفلسطينيين.
ورغم خلافات مصر مع العرب نتيجة لهذه الاتفاقية، فإن السياسة المصرية أثبتت قدرتها على استخدام الاتفاقية الأولى للسلام مع الإسرائيليين لتكون جزءا من أدوات الضغط العربى على إسرائيل، وليس العكس كما كانت تتوقع إسرائيل وأمريكا.
1982. حدث تطور آخر فى المنطقة بغزو إسرائيل لجنوب لبنان واستمرت قواتها هناك ما يقرب من 18 عاما وتحت تأثير ضغط المقاومة اللبنانية الباسلة، والتوترات الإسرائيلية الداخلية فى الشارع والجيش، كانت الخسائر المتتالية الموجعة نتيجة لضربات المقاومة الإسلامية فى الجنوب.
1987. تفجرت الأوضاع فى كل إسرائيل، وظهرت الانتفاضة الفلسطينية كعنصر مؤثر فى إدارة الصراع الإقليمى وكاشف عن قدرة الفلسطينيين على تحرير أراضيهم وعن غرور الجندى الإسرائيلى المتبجح بالدعم الأمريكى غير المشروط، وبالأموال اليهودية وبسطوة تلك القوتين عقب سقوط الاتحاد السوفيتى وانتهاء صراع القطبين والحرب الباردة، ودخول العالم عصرا جديدا.
1993. بدأت المحادثات السرية فى أوسلو، وتقابل عرفات ورابين مع كلينتون فى البيت الأبيض لتوقيع إعلان المبادىء.
1998. عرفات ونيتانياهو فى اتفاقية »واى ريفر« التى لم تنفذها إسرائيل، وانتظرت حكومة جديدة للظهور، وحدد الجانبان سبتمبر 2000 كموعد نهائى للتوصل إلى اتفاق الإطار المرتقب.
هذه التواريخ تكشف عن أن الصراع وصل الآن إلى مرحلة حاسمة يجب أن تتخذ فيها إسرائيل قرارات جريئة ويتخذها »باراك«، ليس انتظارا لضغوط أمريكية، لكن حتى يكون واعيا بأن كل ما يتعرض له من ضغوط داخلية وابتزازات حزبية، وتأرجح فى موازين القوى بين الأحزاب، ليس خوفا من السلام، لكن استغلالا لعدم قدرة القادة فى إسرائيل على اتخاذ قرارات صعبة، بعد رحيل إسحق رابين، فشبح المتطرفين وأعداء السلام أضعف قادة إسرائيل، وجعل أيديهم مرتعشة.
وكل يوم ينتصر التطرف وتفتح المنطقة أبوابها لمرحلة جديدة من الفوضى والتوتر.
وما يجب أن تعلمه إسرائيل وتعيه جيدا أى حكومة هناك، أن ما يطلبه العرب حاليا مقابل السلام الغالى هو الحد الأدنى، الذى لا يمكن الزحزحة عنه، رغم كل المساومات، وإذا لم تكن إسرائيل. بعد عقدين من التفاوض والسير فى هذا الطريق، لا تعرف جيدا أن العرب لم يسيروا فى هذا الطريق، لكى يتنازلوا عن كل فلسطين ويسمحوا بإقامة، بدون دولة فلسطين على الأراضى المحتلة بعد 1967 أو بدون دولة سيادة علىالقدس الشرقية فعليهم أن يعرفوا الآن.
ولا أدرى لماذا لا تتنازل إسرائيل عن احتلالها للمناطق الإسلامية فى القدس، رغم أنها عمليا لا تستطيع الوصول إليها حتى فى ظل الاحتلال، فالخوف يكبل حركة الجنود فى هذه المنطقة المقدسة، ولا أفهم كيف تطلب إسرائيل سلاما وتطبيعا مع العرب، وتترقب حركة تجارة واقتصاد معهم، وهى تدنس مقدساتهم وتحتل المسجد الأقصى أول قِبلة للمسلمين، وكيف نتصور سلاما فى ظل هذا الوضع، الذى يتجاهل كل حقائق الجغرافيا والتاريخ، بل كل ما هو مقدس؟ لكنه منطق المساومات.
وكيف تطلب إسرائيل سلاما مع الفلسطينيين وهى تمنع عودتهم إلى أراضيهم، وتفرض عليهم إما أوطانا بديلة أو يعيشون فى المخيمات، وكيف سيقبل بعضهم السلام، بينما أشقاؤهم وأسرهم مشردون وممنوعون من العودة، أى سلام تطلبه إسرائيل من العرب؟
كنت أتوقع ويتوقع معى كل الراغبين فى السلام أن تكون كل المبادرات السابقة لفتح صفحة جديدة وللوصول إلى السلام من جانب إسرائيل، بعد أن قدم العرب كل المطلوب منهم مقدما، وأعلنوا عن نياتهم السلمية بالكامل، ومازلت أترقب أن تكون المبادرة من إسرائيل فهى التى تحتاج إلى كسب العرب وأن تثبت لهم أن سلامها سيكون طريقا للاستقرار. وأن تفهم من تاريخ الصراع أن العرب أصبحوا قادرين فى أى وقت على أن يجعلوا حياة إسرائيل واليهود فى منطقتنا جحيما لا يطاق، ولعل دور المقاومة فى جنوب لبنان والانتفاضة الفلسطينية وأيام الصراع الطويلة خير شاهد على ما تملكه الطاقة العربية الكامنة من قدرة على تغيير كامل فى ميزان القوى فى المنطقة.