زيارة اعتراف وتقدير

شكلت زيارة الرئيس كلينتون إلى الرئيس مبارك فى القاهرة يوم الثلاثاء 29 أغسطس أهمية سياسية وعلامة فارقة، ليس لكونها آخر زيارة للرئيس الأمريكى إلى مصر، قبل أن يترك موقعه فى البيت الأبيض لرئيس جديد، سواء أكان نائبه آل جور، أم منافسه جورج بوش الابن، فالرئاسة الأمريكية مستمرة فى شخص الرئيس الأمريكى، بل إنها واحدة، ويحكمها إطار مؤسسى محدد، ولا تغيير فىها فى الجوهر مع تغييرات طفيفة فى الشكل والأولويات، وليس لأن الزيارة كانت تحمل فى طياتها أفكارا سياسية جوهرية لمستقبل العملية السلمية، فالظاهر أن العلمية السلمية بين الفلسطينيين والإسرائيليين بالرغم من أنها خطت خطوات كبيرة إلى الأمام، إلا أن المعضلات والصعوبات مازالت كبيرة، ولم تتحرك رغم أن مصر تملك أفكارا جديدة ومبتكرة للمساعدة فى حل المشاكل المستعصية فى النقاط الصعبة »القدس واللاجئين والمياه والأمن«.
وليس لأن الزيارة فتحت الباب أمام المفاوضات بين السوريين والإسرائيليين، بالرغم من أن مصر أعادت التأكيد على أنه لا سلام شامل بدون حل على هذا الصعيد، والتوصل إلى اتفاق سلام مع السوريين بعد الانسحاب من الجولان.
أهمية الزيارة غير المتوقعة، أنها جاءت اعترافا أمريكيا ـ جاء متأخرا بعض الشىء ـ من الرئيس كلينتون وإدارته للرئيس مبارك ولمصر بدورها الفعال فى عملية السلام فى الشرق الأوسط.
وبأمانة وإخلاص الرئيس مبارك فى سعيه إلى التوصل إلى سلام عادل، يؤمِّن للمنطقة استقرارا حقيقيا، وليس سلاما مشوّشا وملتبسا، أو اتفاقيات غير عادلة تعود بالمنطقة إلى الاضطرابات، وتفتح الطريق للفوضى والإرهاب.
زيارة الرئيس كلينتون ليست فقط اعترافا من شخص كلينتون وإدارته للرئيس مبارك لدوره فى حماية السلام، وتعاونه مع الإدارة الأمريكية الحالية، لكنها أيضا رد عملى من الرئيس كلينتون علىالحملات التى استهدفت مكانة الرئيس مبارك ودعمه للسلام الحقيقى.
فقد وضح للرئيس كلينتون وإدارته أن موقف الرئيس مبارك من مباحثات السلام الأخيرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين فى كامب ديفيد استمرار لرؤية وسياسة مصرية عبر عقدين من الزمان، فتحت الباب للتغيير فى الشرق الأوسط، وأنهت عصور الحروب والصراعات، واتجهت بالمنطقة إلى باب التفاوض والحوار كطريق إلى حل الخلافات بين الشعوب، وبالرغم من صعوبات السلام وطريق المفاوضات، إلا أن إصرار القاهرة وقائدها مبارك على أنه لا يأس من عملية السلام أمام المساومات الإسرائيلية خلق سياسة مستقرة ورؤية ثابتة لا تهتز، وهى أننا لن نعود بالمنطقة إلى نقطة الصفر، وأن الرهان على صوت العقل وأنصار السلام حتما سينتصر، رغما عن المتطرفين على الجانبين العربى والإسرائيلى، لأن الرهان على اللغة القديمة وطريق حل النزاعات بالحروب، يعنى جهلا بلغة العصر، نظرا لعدم قدرة الجيوش على إنهاء النزاعات أو إعادة الحقوق وحماية المصالح، كما أن ترك المنطقة لحالة »اللاحرب واللاسلام«، وعدم إعمال العقل بالحوار والتفاوض لمواجهة الأزمات المزمنة والصعبة، يشير إلى تسليمنا البطىء بفتح الباب أمام الإرهاب والتطرف ليسودا المنطقة، ويلغيا العقل والاستقرار والنمو، ممما يسفر عن تهميش مصالح وقضايا الشعوب لمصالح المتطرفين والمتعصبين، ويلغى الأمل فى فهم لغة العصر، وتطوير مجتمعاتنا للمشاركة بإيجابية فى المتغيرات العالمية الراهنة.
زيارة الرئيس كلينتون الأخيرة تحمل علامة صحة للإدارة الأمريكية، وأنهم أخيرا سوف يدركون مفاتيح الشرق الأوسط.
ولعل القاهرة كانت أكثر وضوحا فى تأكيد رؤيتها لعملية السلام.
إنه لا سلام بدون سيادة عربية ـ فلسطينية على القدس الشرقية والضفة الغربية.
وبدون قيام دولة فلسطينية مستقلة، وبدون تحقيق السلام الشامل على جميع الجبهات من خلال استكماله باتفاق سورى ـ إسرائيلى.
نتصور أن لغة القاهرة وسياسة مبارك التى اعترف بها كلينتون وأكد عليها بزيارته الأخيرة إلى القاهرة، سوف تصل إلى الإدارة القادمة توفيرا للوقت وللجهد، وتراكما للخبرات التى عليها أن تنظر برؤية كاملة إلى عملية السلام الدائرة فى الشرق الأوسط، ونكرر إن العرب قدموا ما عليهم، واعترفوا بإسرائيل، وبوجودها فى الشرق الأوسط عبر اتفاقيات ثنائية متتابعة بين مصر وإسرائيل، والأردن وإسرائيل، وصولا إلى اتفاقيات أوسلو ومدريد التى فتحت طريق التفاوض للفلسطينيين والسوريين واللبنانيين مع الإسرائيليين، وامتدادا إلى مفاوضات متعددة الأطراف الإقليمية.
وفى النهاية باعتراف عربى شامل، عبر قمة للزعماء العرب فى القاهرة فى 1996 اعترفت وصدقت على الاتفاقيات الثنائية، لكنها رهنت السلام الشامل بعودة الأرض التى احتلت صبيحة 5 يونيو 1967 وبقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس، هذا العمل العربى الجماعى، يجب أن يلقى الاحترام والتقدير الإسرائيلى والأمريكى، وما نعنيه بالاحترام هو تنفيذ الاتفاقيات وعدم اللجوء إلى المساومات بحجة أن الأرض تحت أيديهم، وأن العرب عليهم أن يقدموا مرونة أو تنازلات مقابل ما يحصلون عليه، فالعرب قدموا بالفعل كل ما يمكن أن يقدموه أولا، ولم يبق إلا الحد الأدنى، الذى بدونه لن يعترف الشارع العربى بالسلام، وهذا يفتح باب الجحيم على الجميع، بل لكل من فكر فى السلام وسعى إليه، لأنه يعود بنا إلى نقطة ما قبل السلام، ويثبت صحة دعاوى البعض التىرفضت هذا الطريق منذ البداية، مشيرين إلى أن الإسرائيليين لا يستحقون السلام، ويجب أن يخرجوا من المنطقة بالكامل، لأنهم لا يملكون حقوقا فيها.
وإذا كنا قد رفضنا هذا المنطق الذى حكمنا طوال الصراع العربى ـ الإسرائيلى، فالحد الأدنى الذى قبلناه يعطى للفلسطينيين %25 من أراضيهم »الضفة الغربية وغزة«، كما أن القدس ليست صفقة يمكن التنازل عنها فمقدساتها »المسجد الأقصى وكنيسة القيامة« حق للعرب وللمسلمين والمسيحيين، ويكفى تسليمنا لليهود بحائط المبكى »البراق«.
إن ما قدمه العرب للسلام من »مرونة« يسميها الكثيرون منا تنازلات، يجب أن يدرك الأمريكيون حقيقتها، وأن تُفهم على أنها اعتراف بالسلام وأهميته، وليست تسليما للإسرائيليين، وخضوعا للغة القوة، لأن إسرائيل لا تملك القوة الكاملة حتى لو ساندتها أمريكا لإجبار العرب على القبول بوجودها فى الشرق الأوسط.
فالقوة التى يمتلكها العرب فى حالة رفضهم للسلام معها، وتعبئة الشارع الإسلامى بالحرب المقدسة، لا تملك إسرائيل وأمريكا الانتصار فيها ـ لكن الثمن سيدفعه الجميع من تخريب المنطقة وتهديد المصالح العالمية.
وهذا ما جعلنا نقبل بالسلام، ونضع سياسة جديدة، وهذا ما جعلنا نقبل بالحد الأدنى، ونسلم بالحلول الوسط، فيجب أن تفهم إسرائيل وأمريكا ذلك وتستوعبان قدرة العرب ورغبتهم فى السير والنجاح فى مسيرة السلام، وهذا يتطلب أن نفهم لغة الحكماء والعقلاء، الذين يضعون عقولهم وقلوبهم على نبض الشارع.
وما يمكن أن يقبله، وبما لا يمكن قبوله مع كل الإغراءات أو الضغوط. فقط وقفة مع العقل والحكمة.