مقالات الأهرام العربى

نهاية عالم

يبدو أننا نخطو سريعا نحو نهاية التاريخ، أو بمعنى أدق نهاية العالم الحقيقى للإنسان الذى نعرفه ـ ليس على طريقة فوكوياما ـ القائل بانتصار الرأسمالية وهيمنتها على العالم، لكن عن طريق معرفة الخريطة الجينية الكاملة للإنسان، وهذه الخريطة هى التى ستكشف كل قدراتنا وإمكاناتنا الكامنة وكيفية تحقيقها، أى أنها ستكشف شفرتنا الجينية، وهو ما يعنى القدرة على كشف قدرنا المتعذر تغييره، بما يشير إلى أنه من الممكن أن تتوقف الحياة، ولا داعى للمحاولة والخطأ، والفشل والنجاح، فالنتيجة الطبيعية لكل أعمالنا ستكون معروفة مسبقا، وتلك هى ببساطة النهاية للإنسان.

فقد تمكن العلماء من تحقيق معجزة علمية جديدة تضاف إلى قوائم كشف المجهول والغوص فى الكون عبر الاكتشافات العلمية، وهذه المرة فى أدق أسرار غموض الكيان الإنسانى، ويتمثل ذلك فى كشف شفرة وصلت إلى مليارىن و104 ملايين و257 ألف حرف كيميائى، قاطعين أكثر من ثلثى المسافة التى تنشدها البشرية فى تحديد السلسلة الكيميائية الصحيحة التى تشكل DNA فى كل خلية من خلايا الجسم الإنسانى.

مما جعل زعيمى الولايات المتحدة وبريطانيا »كلينتون وبلير« يخرجان على العالم فى لقاء مشترك جمعهما فضائيا، ليعلنا هذا الحدث الذى مثلما يحمل للبشر إمكانات هائلة وطموحا لا مثيل له، يحمل معه نهاية حقيقية لكل الحياة الإنسانية التى عرفناها منذ بدء الخليقة، حتى يكتمل هذا الكشف الذى يسير بسرعة أخطبوطية تجسد قدرة الإنسان المعاصر على المعرفة وكشف المجهول، التى أصبحت نتيجة الاكتشافات المختلفة والقدرات التقنية الأخرى وأهمها قدرة الكمبيوتر على التخزين والتحليل الهائلة، تسير نحو هدفها الذى لا يمكن إيقافه.

ويكفى أن تعلم أنها تفك شفرة 12 ألف حرف كيميائى فى الدقيقة، ويعنى ذلك أنه سيتم الانتهاء من الخطة التمهيدية لهذا المشروع الجبار فى يونيو القادم.

وحتى نتعرف على الأبعاد العلمية لهذا الكشف المعجز، فسيكون واضحا أمام الآخرين أن »الجينيوم« وحركته ستعطيك طريقة للتفكير والمعيشة وأسلوب الحياة والحركة، وكيفية العمل واتخاذ القرار، بل رؤية الدنيا وأحلامك وانعكاسات تفكيرك على ما يحدث حولك.

وأما الأطباء فسيتمكنون بتحليل بسيط، عبر أخذ بضع قطرات من الجينات فى أنبوب اختبار، من الكشف المبكر عن نوع السرطان المستقبلى، وهل هو فى المثانة أم من نوع اللوكيميا الذى يستجيب لنوع معين من الأدوية. وسيكون من الممكن عمل تحليل جينى للأطفال لمعرفة مدى إصابتهم بأمراض القلب حتى الزهايمر، وسيعلم العلماء أى الجينات يكون لها تأثير عند شفاء جرح أو نمو أصابع طفل، أو عندما يتساقط الشعر وتصبح فروة الرأس صلعاء أو تتعرض الحواجب للتجاعيد.

كما سيتعلم الأطباء كيفية التعامل ومعالجة هذه »الجينات« كما سيتم معرفة تصميم الأطفال قبل الحمل.

وسيكون على المتقدم لشغل وظيفة تقديم البروفيل الجينى الخاص به، الذى قد يفقده الوظيفة إذا لم يرق لصاحب العمل، وسيظهر خبراء فى قراءة الجينات والتنبؤ بأعمال أصحابها فى المستقبل.

وفى هذه الحال سيختفى المنجمون الذين يقرأون »البخت« و»الكوتشينة« و»الفنجان« وأصابع الكف، لأن قراءة الجينات ستكون أدق وأكثر معرفة، وبدقة علمية متناهية، بالسلوك الإنسانى، وعمر الإنسان ومستقبله. ورؤية كاملة لدقائق الأمور عبر معرفة خطوط الجينات وحركتها المستقبلية.

وكما يكشف الخبراء فإن هذه الخريطة الجينية ستكون أساس علم الأحياء للعقود، بل للقرن، بل للألفيات القادمة، إذا قدر للبشرية أن تستمر وسط هذا العالم، الذى أصبح لا نعرفه فجأة، فهو عالم جديد، أصبح المستقبل فيه كالماضى تماما لا يحتاج إلى الاجتهاد، بل للعمل، ولم يصبح هناك شىء خاف أو يمكن إخفاؤه، فهذه الشفرة هى الكاشفة لمستقبل الإنسان فى حالتى نجاحه أم فشله، وسواء أكان مجرما أم طيبا، عاملا أم كاتبا، مفيدا أم عديم الفائدة، فالمستقبل أصبح مكشوفا، ليس للدول فقط، بل للإنسان البسيط فى قرية غير معروفة أو مدينة باهتة، وكل ذلك يكشفه تحليل جينى سيكون متاحا للعامة والبسطاء، ولن يكلف شيئا، وسيقوم أبسط المستشفيات بتحليله قبل نهاية هذا العام، تصوروا كيف وصلنا إلى نهاية التاريخ وببساطة كاملة؟.

وتصوروا أن هذا الجدول الجينى سيكون متاحا على (C.D)  قبل نهاية العام لكل طبيب ليقوم بالفحص، أو سيكون على شبكة الإنترنت، وهكذا أصبح الإنسان عاريا من ماضيه ومستقبله، حتى وهو طفل رضيع.

يضاف إلى ذلك أن تاريخ الجنس البشرى مكتوب أيضا على DNA فيكفى القيام بتحليل تاريخى حتى نتكشف الاختلافات النادرة فى الجنس البشرى، وأثر الهجرات البشرية، وسيمكن للعلماء التعرف على سلالة الكروموسومات التى خلفها وراءهم التجار الفينيقيون عند زيارتهم إلى الموانىء الإيطالية.

والأهم لنا فى الشرق الأوسط أن المعلومات الجينية ستثبت هل »البانتو« الذين يتحدثون اللمبا فى جنوب إفريقيا هم سلالة اليهود الذين هاجروا من الشرق الأوسط منذ 2700 عام تقريبا، أى أنهم أصحاب فلسطين الحقيقيون؟ أما اليهود الذين هاجروا من بولندا وروسيا وبروكلين فى أمريكا، فقد حصلوا على حقوق بعض أبناء جنوب إفريقيا ـ السعداء ببلادهم حاليا ـ الذين لم يرغبوا فى الهجرة وراء حلم الدولة اليهودية النقية.

هل يمكن أن نواجه هذا القدر المحتوم؟

البعض يشير إلى تأثير البيئة على حركة الجينات، وأن الجينات ليست كل الحكاية، فهناك تفاعل بين الجينات والبيئة، فالتنشئة تدعم أو تؤخر الطبيعة، فالأبحاث تشير إلى أن حمل جين انفصام الشخصية أو غيره لا يعنى حتمية الإصابة به، فهناك اعتماد على البيئة لتغيير هذا المصير غير المحتوم، فإذا نظرنا إلى الجينات على أنها تعرف ما تفعله، فلا أحد يجبر الجين على فعل شىء، فلا يمكن فصل الجينات عن البيئة، وقد تحدث تحولات فيها، ولا يمكن فصل الجينات عن البيئة التى تمارس البروتينات تأثيراتها عليها.

وهكذا فالعالم المستقبلى سيكون فيه حجم المعلوم فيه معادلا لحجم المجهول فى العالم القديم، والعكس بالعكس، كيف ستكون صورة العالم الجديد؟ هذا ما سيحتاج من خيال العلماء والكتاب أن يسطروه.

وإذا لم يستطيعوا وهذا ما أتوقعه، فلتنتظروا، ولن تنتظروا طويلا، فالعلم والمتغيرات فى زماننا لا تحتاج إلى سنوات بل أيام وربما ساعات، وقد تحدث الآن، وسوف نستقبلها فورا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى