انتبهوا قبل تفتت دول المنطقة العربية

منطقتنا حبلى بأحداث جسيمة وتَرقُّب وتغيير منتظر، حتى إن لم تشهد تغييرات درامية أو جذرية متسارعة، لكن ما تحت السطح يشير إلى تطورات مهمة تسترعى التركيز، وتتطلب مزيدا من اليقظة والحركة الواعية، والتعاون العربى أصبح ضروريا فى تلك الفترة الحساسة أكثر من أىة فترة أخرى فى تاريخنا المعاصر، ويكفى هنا أن نشير إلى النقاط ذات الحساسية والتأثير، ليس على الحكام والنظام العربى الراهن فقط، لكن على مستقبل الشعوب ودورها الحالى والمستقبلى.
وأخطر ما نواجهه جميعا هو خطر التفتت والانهيار للنظام العربى الراهن، إذا لم نع خطورة ما يثار ويطرح حول النظام العالمى الجديد، ولعل ما كشف عنه جراهام فولر ـ الرئيس السابق لمجلس الاستخبارات الوطنى بالوكالة الأمريكية للاستخبارات (CIA) ـ يدق ناقوس الخطر للجميع، حيث طالب العالم أن يتعود على ما يجرى الآن فىكوسوفا، لأن ما يحدث هو موجة المستقبل، ونشر »فولر« فى »الواشنطن بوست«، و»الهيرالد تربيون« أن ما يجرى الآن هو إعادة تقييم جذرية للسياسات والحدود والسيادة القومية، مشيرا فى سؤال عجيب عمن يملك الحق فى أن تكون له دولة؟ أى أحد والإجابة الموجزة هى نعم.. فكل أولئك الذين يشعرون برغبة كافية لإقامة دولة، ستكون لهم دولة، وسيحفزهم إلى ذلك سوء الحكم.. مفسرا ذلك بأن هناك مجموعة دول استبدادية سوف تتفتت إلى مجموعات عرقية صغيرة فى المرحلة الأولى، وبالرغم من أن عملية انهيار الدول وإعادة تكوينها على أسس جديدة لن تكون عملية منظمة، فما البديل؟ يجيب »فولر« أن تبقى الدول التى تمثل معسكر اعتقال ضخماً، ويفسر كلامه من الذى يظن أننا يمكن أن نقبل بالتكوين التعسفى الذى قامت عليه يوغسلافيا مرة أخرى؟ هل يرغب الغرب الآن فى أن تبذل الجهود الجبارة للمحافظة على دول مهتزة وحدود كان رَسمُها كارثة بشرية؟ هل يجب أن يبقى العراق موحدا إذا كان التاريخ قد قرر تدميره؟
هل سيكون الأتراك أكثر ذكاء فى التعامل مع الأكراد؟
هل يمكن أن تبقى أندونيسيا وأفغانستان على قيد الحياة؟ كما أن كثيرا من حدود إفريقيا وشعوبها المبعثرة بدون داع ـ بسبب حدود تعسفية وضعها الاستعمار ـ تكاد لا تكون مؤهلة للبقاء على قيد الحياة.
وطالب »فولر« بإنشاء مجموعة دولية تشبه منظمة العفو الدولية، لكى تضع قوائم للدول التى يجب تحريرها من خطر التفتت، وسوف يكون ذلك أشبه بهيئة استشارية تقدم النصيحة لمن يريدون الاستمرار فى البقاء معا بأساليب مثل سلطات حكم ذاتى لبعض المناطق، أو فيدرالية أو حقوق أقليات.. أو استفتاءات..
وبالرغم من كل ذلك، فلن يجدى هذا الأمر فى بعض الحالات، وهنا سيكون المجتمع الدولى أكثر حكمة إذا قرر تسهيل الانفصالات كحل أفضل من الإبقاء على الحكام المستبدين، وحدودهم التعسفية، وهم الذين تسببت تصرفاتهم وسياساتهم فى أن يفقدوا ما يسمى »حق السيادة«.
وهكذا تنكشف أمامنا صورة العالم الراهن، وحجم التفسخ والتفتت المرتقب لمنطقتنا، ولا يكتفى النظام العالمى بكوسوفا واحدة، فالضرب والأساليب الأخرى قد تشمل الجميع، والتدخل فى شئون وخصائص الدول وسياساتها الداخلية سيكون عاليا ومتسعا وليست له حدود.
فالصورة واضحة والسياسات معلنة، ولاتحتاج إلى مكاشفة، كل ذلك والمنطقة العربية تشهد مشاكل وتغييرات داخلية لا حصر لها، تستدعى سياسة حكيمة للتعامل معها، فالأزمة العراقية تُركت للتفاعل الذاتى، والتحللى الداخلى، وليس للعرب رأى موحد لإنقاذ العراق، المرشح الأول للتفتت والانهيار، والوضع فى المشرق العربى لا يختلف كثيراً عنه فى المغرب العربى، وحتى فى دول الخليج العربى شبه الموحدة.
وأمامنا السودان وهو الآخر مرشح للتفكك والانهيار، والخلافات السياسية تعصف بالحكام والمعارضين معا، والخطر يسرب القرار من أيديهم جميعا، لنشهد كارثة فى السودان.
كل المناطق العربية ملتهبة، ولا يمكن الاستمرار فى سياسة تثبيت الواقع العربى الراهن، لأن المستقبل يحمل مؤشرات كلها سلبية، إذا لم نستطع تغيير الواقع الراهن.
ففى المشرق يجب أن تحتشد دوله للتفاوض حول مستقبل لبنان، وحول مشكلة الجولان السورية، والمساعدة فى قيام الدولة الفلسطينية، مع حل المشكلة العراقية بتعاون إقليمى مناسب بين دول المنطقة، لأن ترك الواقع ـ مجمَّداً هكذا ـ سيؤثر على مستقبل كل تلك الدول، بل على حدودها الإقليمية، وهكذا نرى الوضع فى الخليج العربى، فالتعاون الإقليمى هناك يجب أن تتسارع وتيرته فى عهد الحكام الحكماء الحاليين، بكل تزايد الطموحات الإقليمية العاصفة بمستقبل الخليج كله والمغرب العربى ـ شمال إفريقيا ـ مطالب بإعادة إحياء التعاون الإقليمى بين دوله سياسيا واقتصاديا، وأن ينضم السودان إلى الكيان الإفريقى ـ العربى ولا يترك للضياع الإقليمى.
إن تماسك العالم العربى ودوله فى تلك الفترة الحساسة فى التاريخ المعاصر ضرورة قبل أن يأتى الطوفان، الذى قد يقتلع الدولة العربية حديثة النشأة التى قامت فى القرن العشرين، فالخطر العالمى يزحف نحو مستقبلها.