ماذا يحدث حولنا؟

بادرنى صديقى عبر التليفون من واشنطن قائلا ماذا يحدث فى جو القاهرة؟ هل أثرت السحابة السوداء على التفكير العام؟ صديقى مصرى وعربى مخلص جدا يعايش أحداثنا بوطنية خالصة، قلت له انظر حولك، نحن هنا فى مصر نتصور أن سقوط الطائرة المصرية وضحايانا من المصريين هى بفعل فاعل، وأن هناك صاروخا أجنبيا أو جهة خارجية وراء الحادث، فقال إنه شىء عجيب أن نفكر هكذا، الضحايا المصريون والأمريكيون يلقون هنا وهناك تكريما غير عادى، والحزن يعم أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، وأن ضحايا الأقصر أصبحوا ضحايا »بلتيمور«، لأنهم كانوا زائريه لآخر مرة قبل الرحيل. وأطفال المدارس الأمريكية يبكون وينثرون الزهور هنا فى الماء للضحايا المصريين قبل الأمريكيين، ويجب أن نتذكر أن هناك طائرة أمريكية سقطت من قبل فى هذا المكان، وطائرة جون كيندى الابن، هى الأخرى سقطت، ولم يتطرق ذهن الأمريكيين إلى المؤامرة.
وقلت له علينا جميعا أن نطرك كل مساحات التفكير ونعرف بكل الوسائل أسباب هذا الحادث. لكن يجب ألا نترك لأذهاننا وعقولنا أن تذهب بعيدا، وتنسج خيالات وأوهاما عن الحادث، كما أن الحادث ـ والضحايا ـ رغم صعوبته، يجب ألا يتحول إلى صناعة عامة ومستمرة للكآبة تصيب الوطن فى مقتل، وتلفنا بغمامة من الرؤية والتفكير العقيم.
حادث طائرة عارض فى حياة الأمم. ويجب أن يكون هدفنا ألا يتكرر، بالضبط والربط فى أسلوب عمل الشركة الوطنية، ورفع الكفاءة والمتابعة الدقيقة لكل صغيرة وكبيرة للطيارين والعاملين فى الشركة، وللصيانة والدقة فى التشغيل، طائرتنا يجب أن تكون نموذجا للدقة والمواعيد والعمل الدءوب الذى لا يترك مساحة للخطأ مهما كانت صغيرة، والشعوب الحية هى التى تأخذ من أزماتها وكوارثها عبرة للتطور والنمو المتقدم والحديث.
كلنا عشنا الحادث الكارثة، لكنه ليس نهاية العالم، ويجب ألا يكون كذلك، وعلينا أن نبنى عليه تغييرا شاملا فى العمل واللغة والتفكير والرؤية المستقبلية.
قلت لصديقى الكارثة ليست فى الطائرة فقط، لكن فى لغة الخطاب السائدة الآن فى مصر، فهناك البعض غاضب وساخط على الحكومة الجديدة التى تشكلت فى مصر، فقاموا فجأة بتحميلها كل الكوارث السابقة الجو الخانق والسحابة السوداء، وهى نتيجة للكوارث البيئية المتراكمة التى تعيشها القاهرة منذ سنوات، والتى وصلت إلى حرق الهواء الذى نتنفسه، الذى جاء بعد تلويث الماء الذى نشربه من قبل، وتجريف التربة الزراعية التى نأكل منها، كأن فى ذلك إشارة إلى رغبة كامنة فى الانتحار للوطن والشعب، وعلينا ألا نتوقف أمام هذه السلبيات رغم خطورتها، بل علينا أن نقاومها، لنصنع مناخا جديدا وعملا مختلفا.
لقد تساءلت مع صديقى كيف نفكر؟ هل الحكومة مسئولة عن لغة التشاؤم والتفاؤل التى تسود؟ ولماذا لم نتفاءل عندما فاز عالم عربى ومصرى مثل »زويل« بجائزة نوبل مع قدوم الحكومة، وبدء الدورة الجديدة للرئاسة المصرية؟
الأخطاء والكوارث والصعوبات لا تتوقف، فهذه هى طبيعة الحياة، وعلينا أن نعمل بدأب لتغيير الواقع المتخلف وصناعة واقع جديد متقدم.
لقد تفشَّت هذه اللغة فى خطابنا فى الفترة الماضية مع تعاقُب الأزمات التى واجهتنا خلال شهر أكتوبر، ولعل أبرز مثال على ذلك، أن تلك اللغة تكررت بدءا من تحميل المتآمرين الوهميين الذين تخيلنا أنهم أسقطوا الطائرة إلى أصحاب المسئولية عن حادث خيطان فى الكويت والظروف الصعبة التى واجهت العمالة هناك، وحملنا كل الكويتيين يمسئولية الاعتداء على بعض العمال المصريين فى الكويت، ويجب ألا نكون تعميميين فى رؤيتنا على الإطلاق، فلقد قرأت ما كتبه عدد من الكويتيين الذين هاجموا تجار الإقامات، وطالبوا بإصلاح أحوال العمال المصريين وتعويضهم، ومساعدتهم لاجتياز حالة الظلم الصارخ التى وقعت عليهم بسبب بعض التصرفات الأمنية غير المسئولة، والتى قد تحدث فى كل زمان ومكان.
علينا إذن أن نتحلى بالموضوعية والاتزان، وألا تكون أحكامنا قاطعة.
وقلت لزميلى الهجوم ـ ولغة الخطاب الصعبة ـ لم يتعرض له الكويتيون فقط، لكن تعرضت له الأجهزة المصرية المسئولة، التى حاولت احتواء هذا الحادث المؤسف، فبدا الأمر وكأن هناك من يحاولون الاصطياد فى الماء العكر، يِوَصْم المجتمع بغياب ضميره العام، وأنهم فقط أصحاب الضمير اليقظ الوحيدون فى مصر، وكل ذلك من أجل اكتساب الشهرة والدور على حساب مكانة البلد و مستقبله.
وثِقْ أن الأغلبية فى مصر قادرة على إفراز الغث من السمين، وأنها تعرف كل شىء، لكنها تتجاوب بعض الشىء مع ما يقال، لعل فى ذلك ما يحث المجتمع والمسئولين على الإسراع فى مواجهة مظاهر الفوضى وتفشِّى أساليب انعدام المسئولية ، ودفع المجتمع إلى مزيد من التقدم ومواجهة أزماته وصياغة رؤية جديدة.
فشعبنا الذى صنع الحضارة والتقدم وتجاوز كل أزماته عبر التاريخ القديم والحديث، قادر على تغيير لغة هذا الخطاب، وإحداث تماسك يحافظ على ما يحدث فى مجتمعنا من تطور وتقدم.
إننا قادرون جميعا على اجتياز لغة اليأس والتشاؤم التى لن تسود، وصناعة واقع متطور وجديد يبث فينا التفاؤل لأننا نملك الكثير الذى نزهو به.