مقالات الأهرام اليومى

شهادة حول مكانة د‏.‏ إبراهيم شحاته ودوره

مازلت أذكر منذ أكثر من عقد عندما أصدر د‏.‏ إبراهيم شحاتة‏,‏ الاقتصادي والقانوني المصري‏,‏ الذي احتل مكانة بارزة علي الصعيد الدولي كتابه الإصلاح الشامل عن مصر‏,‏ وأخذت أتابع صفحاته‏,‏ لا أقرأها فقط بل ألتهمها‏,‏ حتي أشعر بأن مصر بلدنا مكانة تحت الشمس‏,‏ وأنها ستخرج من عنق الزجاجة قبل نهاية القرن العشرين‏,‏ وكان خطاب أو كتاب د‏.‏ شحاتة دقيقا كعادته وعلميا ومتابعا وبأسلوب سلس جميل‏,‏ فهو يكتب ويفكر ويعني ما يقول‏,‏ فهو عالم والعالم لا يسعي إلي الاستعراض‏,‏ والمفكر الحقيقي من يضع علمه وخبره لوطنه ومواطنيه‏,‏ والمتوازن يوظف خبراته وكفاءته وعلمه للجميع خاصة لمن يحبهم وهم الوطن وبنوه‏,‏ولذلك انتهزت فرصة زيارته إلي مصر في مطلع التسعينيات بمناسبة صدور الكتاب ودعوت الاقتصاديين خاصة التنفيذيين‏,‏ لكي نضع هذا الفكر أمام متخذ القرار‏,‏ وكيف نجعل ما نفكر فيه نسطره حقيقة‏,‏ حتي لا تظل الأفكار نائمة في الكتب ولا يستفيد بها أحد‏,‏ إلا أصحاب العقول ومن يبحثون عن الحقيقة والخروج من الأزمة فقط‏,‏ ولكن ليس في أيديهم شيء‏,‏ فتظل الأزمة ماثلة‏,‏ والحقيقة غائبة‏!!‏
وكان الشيء المثير أن كل من دعوته لبي الدعوة وبدون اعتذار‏,‏ حتي رئيس الوزراء والوزراء‏,‏ وكبار المفكرين والاقتصاديين‏,‏ فقد حضر الجميع احتراما للدكتور العالم إبراهيم شحاته‏,‏ للمؤسسة وللموضوع‏,‏ وكان حوارا شيقا‏,‏ مازلت أحتفظ بتسجيلاته‏,‏ وأعود إليها دائما لكي أستمع إلي صوت د‏.‏ شحاته العميق والمؤثر‏,‏ والذي يحمل في طياته دعوته وبرنامجه للإصلاح وتغيير مصر اقتصاديا‏,‏ ورفع مستوي معيشة المواطن فيها وأن تحتل بلاده مكانة ودورا متميزا‏,‏ في محيطها الإقليمي والدولي يتناسب مع تاريخها وحضارتها العظيمة‏.‏

وكان الرجل يتكلم عن برنامج الإصلاح الاقتصادي المصري‏,‏ وهو نفسه نائب رئيس البنك الدولي‏,‏ وكان مبعث فخرنا واعتزازنا‏,‏ أن العقل الذي يفكر للبنك الدولي هو مصري‏,‏ والذي يصلح العالم واقتصاده ومؤسساته هو مصري أيضا‏.‏
وكانت دهشتنا في ذلك الوقت وقبله‏,‏ أن مرحلة العداء للاقتصاد الحر ومنظماته الدولية مستمرة وسائدة في بلادنا كما في بلاد أخري‏,‏ نتهم العالم ومنظماته بأنها وراء تخلفنا وفقرنا‏,‏ وننسي فساد سياساتنا‏,‏ وأخطاءنا ورؤيتنا الداخلية القاصرة وقياداتنا الضعيفة والتي تتصور أنها تعرف الحكمة وما بعدها‏,‏ في حين أنها تعاني قصورا ولا تفهم مسارات الاقتصاد ومتغيراته وإلي أين يتجه؟

كان د‏.‏ إبراهيم شحاته يتكلم كما يكتب بتواضع شديد وأدب جم‏,‏ ولغة راقية للحوار‏,‏ بلا همجية أو تعال‏,‏ يسمع لكل الآراء‏,‏ وهو العالم المجرب الذي يقول الحكمة وتجاربه تطبق في الدول والمؤسسات العالمية فتخرج من أزماتها وتنطلق إلي رحاب التقدم بلا تخلف أو تباطؤ‏.‏
وقد كان دءوبا في رصد اقتصاد مصر‏,‏ وكأنه يعيش معنا ويعمل من أجلنا في حين أنه كان موظفا دوليا وذا مكانة مرموقة علي صعيد الاقتصاد والقانون‏,‏ ودراساته وكلماته لا تكتب فقط‏,‏ في كتب للبحث والتعليم للدارسين‏,‏ ولكنها تتحول إلي سياسات‏,‏ تصدر بها قوانين وتخرج منها منظمات دولية‏,‏ تصوغ

حركة العالم وقوانينه‏,‏ ويكفي أن نقول إن الاقتصادي والقانوني المصري د‏.‏ إبراهيم شحاته هو من صناع الاقتصاد المعاصر‏,‏ في بناء المؤسسات الاقتصادية التي تدير العالم في عصر العولمة وله دور لا ينكر في العالم ولن ينسي لسنوات طويلة وستذكره دوائر البنك الدولي‏,‏ وصندوق النقد ومنظماتهما ومؤسساتهما القانونية والاقتصادية ومن يدور في فلكهما‏.‏
كنا نشعر في مصر وكل من تطلع إلي التغيير والتطور منذ منتصف السبعينيات‏,‏ والثمانينيات والتسعينيات‏,‏ بأن الرواد الذين أعادوا تصحيح مسار مصر الاقتصادي‏,‏ وكتبوا وطالبوا بشجاعة واقتدار للتصحيح‏,‏ سوف يتقدمهم د‏.‏ إبراهيم شحاتة‏,‏ ولا ننكر أن هناك آخرين لهم كتبهم ومقالاتهم وفكرهم ورصيدهم الذي سيبقي ولا يمكن إنكارهم أو تجاهلهم‏,‏ ولكن د‏.‏ شحاتة هو في الطليعة منهم‏,‏ وكتاب وصيتي لبلادي حمل رؤية شجاعة وخالصة لوجه الله‏,‏ ومن يقرأه ويتمعن فيه خاصة مقالاته الأخيرة حول النهوض‏,‏ والحداثة في مصر سيعرف كل الأمراض وكوامن التخلف ونقاط القصور‏,‏ ولماذا نتعثر دائما؟

ويجب أن نتوقف كثيرا أمام الرصيد العلمي للدكتور إبراهيم شحاتة‏,‏ ليس لأنه ابن نابه من أبناء مصر‏,‏ الذين احتلوا مكانة بارزة علي الصعيد الدولي‏,‏ وليس لأنه كان مخلصا في حب بلاده وصادقا معها في التفكير والرؤية‏,‏ وليس لأنه سوف يحتل بمرور الأيام مكانة د‏.‏ جمال حمدان في الجغرافيا‏,‏ أو السنهوري في القانون‏,‏ وليس لأنه رحل من بيننا‏,‏ ومن عاداتنا أن نهتم بالراحلين‏,‏ ولكن لأن كتابات وفكر د‏.‏ إبراهيم شحاتة في الإصلاح الاقتصادي والسياسي والقانوني لمصر لا غني عنها إذا أردنا أن نستمر ونتطور‏,‏ ولا تتعثر برامجنا‏,‏ بعد أن تخطو خطوات ضعيفة‏,‏ تفرحنا وكأننا لسنا أهلا للتطور والنمو المستمر‏.‏
ستظل كتابات وفكر ورؤية د‏.‏ إبراهيم شحاتة مصرية خالصة للتطور‏,‏ ولا شبهة فيها أنها قادمة من خبير واقتصادي للبنك الدولي‏,‏ فقد كان يحرص الرجل علي أن يقول إن هذا هو فكره الخالص والنقي‏,‏ والذي استفاد به البنك الدولي ومنظماته ولا يعيبنا أن نستفيد من كل تجارب الآخرين‏,‏ ولا نخشي المؤامرة التي تعشش في عقولنا فقط‏,‏ وكانت وراء تخلفنا الطويل والتي قللت من مكانتنا ودورنا وجعلتنا نتهافت علي من هم أقل شأنا منا‏,‏ ونحن نملك الرؤية والفكر النافذ‏,‏ الذي يستطيع أن يجعل لمصر شأنا كبيرا ولكن مع الأسف لا يلتقي من يفكر بإخلاص مع من يستطيع أن يكون قادرا علي اتخاذ القرار‏,‏ والاستمرار في العمل الدءوب حتي يمكن أن نخرج حقيقة وإلي الأبد من عنق الزجاجة ومن البلاد الفقيرة أو من العالم الثالث‏,‏ فمصر بإنسانها ومواردها وموقعها وتاريخها وثقافتها‏,‏ ليست من العالم الذي تعيش فيه فهي قادرة علي أن تكون مؤثرة بل قائدة في العالم الأول‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى