مناطق ساخنة

التقطتُ عددا من الأحداث الساخنة في منطقتنا، كان الأول من إيران.. والثاني من باكستان، والثالث من الجزائر، ثم انتهيت إلي ملاحظة عابرة عن السلام، فالمشهد الذي أثار الانتباه، والقادم إلينا من طهران عقب انفجار ثورة الشباب، بحثا عن الحرية، حيث خرج الطلاب الإيرانيون هذه المرة ضد الخومينيين، ومؤسستهم التي أقيمت بعد سقوط الإمبراطورية وطرد الشاه، وإحلال ولاية الفقيه مكانها، والتي انتقلت زعامتها من الخوميني إلي خامنئي، والصورة تكشف عن أن الشباب الإيراني مصمم علي استعادة الدولة الحديثة في إيران، واستكمال إصلاحات الرئيس خاتمي،
وبعيدا عن مشهد الطلاب الساخطين في أمير آباد الجامعية شمال غرب طهران، ومشهد وأصفهان، واستقالات أساتذة الجامعات، والاتهامات المتبادلة من رجال الدين، ومراجع مدينة قم، الذين وصفوا الطلاب وشهداء الحرية بالخونة للشعب والأمة والدين، وهتافات الطلاب المطالبة بحكومة من الشعب، علينا أن نستخلص عدة مؤشرات، أولها إن هؤلاء الطلاب هم أنفسهم، الذين صنعوا الثورة الإيرانية، وركبها رجال الدين بقدرتهم علي التعبير عن طموح الشعب الإيراني، واستطاعوا السيطرة علي الحكم، بل تدجين الجيش والمؤسسة العسكرية، التي كان يحكم بها شاه إيران الراحل.
ثانيها: إن الذهول الذي قابل به رجال الدين ثورة الطلاب، وعدم قدرتهم علي التكيف معها، رغم أن تنوع حكام إيران بين متشددين ومحافظين وليبراليين، يكشف عن أن الثورة تواجه أزمة داخلية، وأن وقت التغيير قد حان.
ثالثها: قد لا يستطيع الطلاب ـ وثورتهم ـ أن ينهوا حكم ولاية الفقيه، وتحقيق انتصار ساحق بتغيير النظام الإيراني، مثلما تحقق في الثورة الأولي، عقب سقوط الشاه، وسيطرة الشارع، ورجال الدين علي الحكم في إيران، لكنها بالقطع واليقين سوف تفتح بابا ـ للتغيير ـ كبيرا، وتكرِّس لحقبة الحرية ودولة المؤسسات، التي فتح لها رافسنجاني وخاتمي بابا واسعا في إيران، ورابعها إن المشهد الإيراني ليس بعيدا عن كل دول الشرق الأوسط، ومنطقتنا العربية، فكما استوردنا منهم الأفكار الدينية، وانتشار أحزاب وأفكار تكرس مفاهيمها عن الدين، وتتحدث باسم الله، لا يمكن أن يبتعد الذهن في عالمنا عن الحرية، ودولة المؤسسات والقانون، وتحديث الدولة، و سقوط الأحزاب السرية وانتهاء عصر المتطرفين، ومن يتحدثون باسم الله علي الأرض.
هذه الصورة القادمة من إيران لا يمكن أن تخفي أو تُغََيِّب مشهدا آخر قادما من باكستان، فرئيس الوزراء نوار شريف عندما شعر بأن استمرار التعامل مع أزمة كشمير باللعب علي أوتار الحماسة والشعارات في حشد الأمة، وتكريس لعبة التطرف الديني في مواجهة الهند، سوف يؤدي بأوخم العواقب علي مصير الدولة الباكستانية نفسها، فما كان منه إلا أن اتخذ القرار الصعب، والاتجاه إلي تخفيف حدة التوتر بانسحاب المقاتلين الكشميريين المتسللين من باكستان، وبدء تنفيذ الفصل بين القوات علي طول خط المراقبة بين شطري كشمير المتنازع عليها، وهكذا أثبت رئيس الوزراء الباكستاني أن رجل الدولة يضع في حساباته ـ عند اتخاذ القرار ـ مصالح ومستقبل الدولة، وليس اللعب بالأهواء وبالمصالح الضيقة، واكتساب الشعبية الجوفاء، وحتي لو كانت قراراته سيرفضها أهالي كشمير والتنظيمات الدينية المنتشرة، دفاعا عن هذا الإقليم المتنازع عليه.
رد فعل نواز شريف كشف عن الحكمة والرؤية الصائبة لمتخذ القرار، عندما تغيبان عن قرارات شخص مثل ميلوسوفيتش، أو صدام حسين، فتدفع الشعوب التكلفة الاقتصادية الفادحة للحرب، نتيجة أخطاء الحكام، وغياب صواب الرؤية، وجموح الشطط، وسيطرة الشعارات، فغياب العقل يؤدي إلي أصعب الكوارث التي أصبحنا لا نستطيع أن نتجاوز خسائرها.
ومازلنا في الشرق ومع تطورات أحداثه، فالصوت القادم من الجزائر عكس قدرة هذا القطر العربي علي استعادة عافيته مرتين، الأولي بسياسات بوتفليقة للمصالحة والتغيير في الجزائر، والثانية بالقمة الإفريقية التي انعقدت بحضور ٣٤ رئيس دولة وحكومة، وخرجت بتصور إفريقي لمستقبل القارة في القرن القادم، ولعل صوت القمة وإعلان الجزائر لا ينسينا أن قارة إفريقيا أصبحت في حاجة إلي الأفعال أكثر من الأقوال، للخروج من وطأة الفقر والقلاقل والاضطرابات، التي أصبح خطرها لا يهدد الإنسان فقط، بل الكيانات الإفريقية، التي ظهرت علي الخريطة العالمية بعد الاستقلال منذ الستينيات، حتي هذا الاستقلال أصبح مهددا، في ظل الفقر وغياب التنمية والديمقراطية، وانهيار المؤسسات.
ولذا لابد من إعمال صوت الحكمة والعقل كدافع للعمل وتقليل حدة الصراع والبحث عن السلطة.
ولا يفوتنا التنويه بالتطورات المهمة علي صعيد السلام الشرق أوسطي، مع ظهور حكومة باراك في إسرائيل، واللقاءات المتتابعة، سواء في القاهرة مع الرئيس مبارك، أو علي معبر إرينز مع عرفات، أو في الأردن مع الملك عبدالله الثاني، ولا نستطيع أن نقول إن المفاوضات وطريق السلام مع إسرائيل ليس إلا عملية شاقة وصعبة، والتفاؤل والتشاؤم خلالها لا ينبغي أن يغني عن ضرورة التنسيق العربي مع كل الدول المعنية، وهي بالتحديد مصر وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين، ولن تنجح دول الطوق في الوصول إلي سلام عادل واسترداد القدس وإعلان الدولة الفلسطينية وعودة الأرض المغتصبة، بدون دعم دول المشرق والمغرب والخليج، أي بضغط عربي شامل علي إسرائيل وأمريكا والمجتمع الدولي ككل.