الاعتراف بالشعب قبل الدولة

كانت لحظة غامرة السعادة بالنسبة لى أن أكون أحد أعضاء الوفد الرسمى المصرى الذى طار إلى غزة فى أول طائرة مصرية تهبط فى الميناء الفلسطينى الأول يوم الثلاثاء ١١/٢٤ معلنة للعالم أن هناك دولة وشعبا فلسطينيا فى هذه البقعة من العالم، وفى قلب منطقة الشرق الأوسط.. وهكذا منذ نقطة البداية تُهزم المقولات والادعاءات الإسرائيلية التى تقول إن فلسطين أرض بلا شعب،
فقد أكد المطار وشاهدنا ـ جميعا ومعنا العالم ـ رئيسا يحترق من أجل إقامة دولته، ولا يُفوت فرصة أو دقيقة إلا ويؤكد أن هناك دولة وشعبا استقبل الوفود والطائرات فى المطار، وصاحبهم إلى الغداء فى مطعم فى قلب غزة، واستمر معهم إلى العشاء فى فندق آخر فخم جديد أنشىء فى عهد السلطة الفلسطينية، ليؤكد للعرب وللجميع أن هناك عملا مستمرا فى بناء الدولة، وفى الظهيرة، بين الغداء و العشاء، كنا جميعا نلتف حول المسئولين الفلسطينيين فى أول منطقة صناعية فلسطينية، من المأمول أن تعمل بكامل طاقتها قبل نهاية العام الحالى ١٩٩٨،
وسوف يفتتحها كلينتون، ليكون أول رئيس أمريكى يزور الدولة الفلسطينية، معلنا للعالم اعتراف الدولة الكبرى ـ فى عهد هيمنتها على النظام العالمى ـ ليس بالدولة الفلسطينية فقط، لكن بالشعب الفلسطينى، وهذا هو الاعتراف الأهم والأول، فمنذ ٥٠ عاما وهناك تغييب إسرائيلى للشعب الفلسطينى من أجل اغتصاب الأرض والوطن، وسوف يحضر الرئيس الأمريكى اجتماع المجلس الوطنى الفلسطينى ليؤكد اعترافه واعتراف حكومته وشعبه بالدولة والشعب الفلسطينى أمام العالم.. بل جاء الرئيس الأمريكى لكى يطلب من الشعب الفلسطينى أن يقبل وجود دولة وشعب إسرائيل فى المنطقة من أجل السلام، وإنهاء الحروب بين الشعبين.. كل هذه الحقائق على الأرض هى ثمار السلام، وثمار التفاوض،
لكل من يتهم من يسعى بجدية من أجل البناء، وحل المشاكل المستعصية، والوصول إلى حلول تاريخية، بصُنع حقائق على الأرض، بالمهزلة، بينما هم يعيشون فى مهزلة حقيقية، فمنهم من دمر اقتصاد بلاده رغم غناها، ويتنقل من مأزق إلى آخر، والآخرون ينتظرون فرج النظام العالمى من أجل التفاوض والوصول إلى حقوقهم.
إن من يصنعون الحقائق على الأرض، علينا احترامهم وتقديرهم والاعتراف بقدرتهم على تغيير الواقع العربى الأليم، من أجل بناء مستقبل أفضل للعرب وشعوبهم.
وإذا عدنا إلى مطار غزة، فى لحظات افتتاحه، فسنجد أنه كان حدثا غير عادى، اعتبرته فى داخلى المقدمة الطبيعية للحدث الأكبر الذى ننتظره جميعا، وهو خروج إسرائيل من الأرض المحتلة كلها، وإعلان واعتراف العدو قبل الصديق بالدولة الفلسطينية الجديدة وعاصمتها القدس.
عندما نظرت من الطائرة للوهلة الأولى، وجدت قبة المسجد الأقصى تنتظرنى بفرحة غامرة، شعرت فى داخلى أننا ـ ربما ـ كنا فى القدس، ولأول مرة لا أرى حلمى بعيدا، فالمقدمات تبشر بالنتائج، فها هو مطار غزة وقبته بلون الذهب، على غرار قبة الصخرة، وفى داخله نقوش عربية ومغربية، وآيات القرآن الكريم تزين أسقفه، معلنة الهوية العربية والفلسطينية للدولة الجديدة، كل ذلك وسط هيمنة أمنية مازالت ظلالها تخيم على المنطقة، رغم كمونها فى انتظار فرصة للإعلان عن هويتها، وتحدى الأوضاع الجديدة.. فمنذ اللحظة الأولى لإنشاء المطار الجديد، كان الإسرائيليون ـ ومازالوا ـ يريدون التدخل فى كل شىء، حتى فى اسم المطار، كانوا يريدونه باسم قرية الدهاينة الفلسطينية، من أجل رد الجميل لبعض من تواطئوا معهم فى زمن الاحتلال، إلا أنه ـ أخيرا ـ أصبح يحمل اسم مطار »غزة الدولى«، ولكن يحلو لبعض الفلسطينيين تسميته مطار »الرئيس ياسر عرفات«، اعترافا بجهاده فى الحرب والسلم من أجل الدولة ومستقبل الشعب الفلسطينى، الذى بدأ يجنى ثماره، والتى ستكون وفيرة بحق.
نحن جميعا مع الفلسطينيين لكى يحصلوا على كامل حقوقهم، ونعترف بأن طموحاتهم أكبر مما حصلوا عليه، لكن يجب أن نعترف بأنهم يواجهون أكبر قوة فى العالم، ليست إسرائيل وحدها، لكن النظام العالمى والمتغيرات العالمية، التى أصبحت لا تقبل إلا التفاوض والحلول الوسط، والأوراق التى يملكونها ليست كثيرة، بالرغم من أن العرب يملكون الكثير، لكنهم يعيشون حاليا فى أسوأ مراحلهم التاريخية، على أصعدة كثيرة سياسية واقتصادية.
لا نريد إفساد العرس الفلسطينى، رغم أن هناك الكثير الذى يفسده، ولن تكون آخره المستوطنات التى تقام على الأرض بسرعة كبيرة ففى الليلة التى سبقت إنشاء المطار، كان هناك توسع فى الاستيطان والاستيلاء على الأراضى، ومازالت آلة الإعلام الإسرائيلى تقابلك وأنت تتجول داخل المنطقة، وبين الأراضى الفلسطينية، وهناك على بعد كيلومترات قليلة معبر »آريز«، الذى شاهدت عليه العمال الفلسطينيين وهم عائدون مكدودون من إسرائيل، بعد يوم عمل طويل، استغرق أكثر من ٠١ ساعات، وقفت أحكى معهم عن المستقبل، كلهم أمل فى قيام دولة فلسطينية، ويبحثون عن فرص عمل فى أراضيهم، يريدون أن يهربوا من نزيف سحب دمائهم ورهن اقتصادهم بدولة إسرائيل، يبحثون عن ظروف معيشة أفضل لهم ولأولادهم، و يتطلعون إلى الدولة الجديدة، والعصر المختلف بروح جديدة، على الرغم من معاناتهم اليومية.