الديمقراطية

العالم يتجه إلى الحكم الديمقراطى، وأصبح من المسلمات أن التغيير الذى يجب أن يشمل الأنظمة الحاكمة فى العالم المعاصر، لابد أن يضع نصب عينه الاتجاه إلى الحكم الديمقراطى، فالأنظمة الديكتاتورية تتقلص وسوف تنسحب نهائيا من عالمنا، وتسقط مثلما سقطت كل الأنظمة الفاشية والنازية بعد الحرب العالمية الثانية، ثم تتابع السقوط للأنظمة المماثلة، بعد سقوط الاتحاد السوفيتى فى السنوات الأخيرة للقرن العشرين، وإذا كانت القمة الإفريقية فى الجزائر قد وضعت حدا للأنظمة العسكرية فى القارة السمراء، فإن العالم والنظام العالمى الراهن، سبق له أن أسقط من حساباته طموح العسكريين إلى السلطة والتسلط، بحكم أنها المؤسسة الأقوى التى تسبق بقية مؤسسات المجتمع، خاصة المدنية فى المجتمعات النامية أو الساعية إلى التقدم، وبسقوط هيمنة العسكريين، وبانتقال عدوى المبادىء الديمقراطية، سقط آخر الديكتاتوريات التى عرفها عالمنا المعاصر،
ومع بودار التغيير فى إيران، وثورة الطلبة والنساء على حكم رجال الدين، ومع اعتراف أن ثلثى المجتمع الإىرانى تحت الخامسة والعشرين، وأن ٩٦٪ من الإيرانيين أعطوا أصواتهم إلى إلى مصلح دينى، وهو الرئيس محمد خاتمى، من هنا فقد أصبحوا فى حاجة ماسة إلى أن يخففوا من تأثير المؤسسة الدينية على المجتمع والحكم، وهكذا سوف يتوالى سقوط الديكتاتورية الدينية الوحيدة فى عالمنا، والعالم العربى جزء من هذا العام، وقد تتابعت عليه أنظمة عديدة، منها الثورية، والدينية، والتاريخية والملكية، وأصبحت مجتمعاتنا فى حاجة ماسة إلى التفكير فى تغيير أشكال الحكم،
وإعطاء شرعية أكثر للشارع فى اختيار الحاكمين ورجال السياسة، وبناء نظام ديمقراطى فى مجتمعاتنا العربية، أصعب وأشق من بناء نظام اقتصادى، لأن النظام السياسى أصعب وأشق فى البناء، بحكم تركيبة مؤسساته، وأشكال تفاعلها، و زيادة أدوارها، وإحكام الرقابة الشعبية والبرلمانية على نظام الحكم، وتصعيد الكوادر السياسية القادرة على الإدارة والتعبير عن الجماهير، وتحقيق مصالحها، نظام كهذا يحتاج إلى بنية أساسية، ومؤسسات قادرة، ولعله أصبح واضحا أن النظام الديمقراطى لا يعنى الفوضى أو الجدل طوال الوقت،
لكن الديمقراطيات لا تنشأ ولاتزدهر فى المجتمعات الضعيفة التى لا تملك مؤسسات قوية وفعالة وقادرة، وشرطها الأساسى يتمثل فى وجود مؤسسات تبعث على الثقة والاحترام والتنظيم كالبرلمان، والجيش والقضاء، والشرطة، ومؤسسات الخدمة المدنية الأخرى، ولا يتحقق ذلك بدون مؤسسات تعليمية وبنية أخلاقية، تسمح بإفراز طاقات خلاقة وتقديم قيادات قوية تؤمن بالعلم، واحترام قدرات الآخرين، أى الرأى والرأى الآخر، والقدرة على إدارة المجتمع، ورفع طاقته على التنوع والتعدد فى الآراء والقدرات، وليس بحكم التسلط والرأى الواحد، والفرد الواحد، الذى لا تخطئه الحكمة أينما قال أو فعل.
عالمنا العربى، ومجتمعاتنا فى حاجة إلى أن تؤمن بالديمقراطية، وتؤسس شرعية جديدة للحكم فى مجتمعاتها، حتى يصل من يستطيع إلى السلطة والحكم بموافقة الأغلبية وباعترافها، ويصل إلى الحكم وإدارة المؤسسات أهل الخبرة والقدرة، والمؤهلون بحكم التراكم المعرفى والأدوار الفعلية، والإنجاز الحقيقى، وليس بحكم القفز على الكراسى أو اقتناص الفرص لأهل الثقة، أو بحكم الوراثة، وإلغاء العقل، لأنهم متحدثون بأسماء مؤسسات لا تخطىء، كالمؤسسات الدينية أو العائلية الموروثة، يجب أن نعترف جميعا، بأن الديمقراطية هى أفضل شكل للحكومة، وأن نسلم بإرادتنا الواعية للشعب بالحكم، وأن يلعب الدور الرئيسى فى اختيار حكامه، حتى نفوِّت الفرصة على من يدفعوننا إلى الصراع والاقتتال فيما بيننا، كل ذلك مع تسليمنا بأن الديمقراطية تواجه أزمة حقيقية فى مجتمعاتها التى نبتت فيها،
ولن نكون مغالين مثل تشرشل حين وصف الديمقراطية بأنها أسوأ شكل للحكومة، برغم أن البعض أكد ـ مع نهاية الحرب الباردة ـ أنه كان على حق، فنحن لا نؤمن بذلك لأننا شهدنا أنواعا عديدة من الحكومات التى أفرزتها عادة أشكال القوة، لكن الخبراء يؤكدون أن الديمقراطية تعيش فى الغرب الآن حالة من الغربة، فهناك فقدان الأمل من الغالبية العظمى فى الديمقراطيات القديمة، وخيبة الأمل فى رجال السياسة، وفقدان الثقة فى المؤسسات السياسية، ويعترف الكثيرون ـ بحذر ـ بأن الديمقراطية قد تكون ضحية نجاحها، وبظهور المواطنين الانتقاديين،
وبارتفاع مستوى التعليم والاتصال، فقدت الديمقراطية بريقها والمطالبات أصبحت أكثر إلحاحا، بالتوصل إلى آليات جديدة تجعل الديمقراطية تعمل بصورة أفضل، وقنوات للمشاركة بشكل أفضل، وأنظمة انتخابية أحدث تستخدم الاستفتاءات وأشكال الديمقراطية المباشرة، والتقليل من سلطة البرلمانات، وإعطاء القضاء سلطات جديدة لإعادة النظر فى القرارات التى يتخذها رجال السياسة المنتخَبون، والمطالبة بتقنين تمويل رجال السياسة والأحزاب السياسية.
الديمقراطية تدخل مرحلة الإصلاح والتنمية السياسية، ونحن فى مجتمعاتنا العربية كلنا فى حاجة إلى أن نركب القطار الديمقراطى، حتى لا نقع فريسة للتأخر أو الفوضى