البياتى رحيل شاعر

الشعراء لا يموتون.. حقيقة تجسِّدها الأبيات التى خرجت من كلمات، وأصبحت أحلى من كل الكلمات، بل وأكبر من كل الكلمات، والشعراء زهور نبتت وأينعت جمالا حتى فى الصحراء، لم يقترب منها الناس فقط، بل إن الله منها اقترب.
فقدنا شاعرا عربيا عراقيا آخر، هو عبدالوهاب البياتى لا أريد أن أقول إنه مات فى المنفى، لأن سوريا للعراق ليست منفى، لكنه مات ولم ير العراق فخروجه منه خروج من المنفى، الذى صنعته الديكتاتورية المحلية، والديكتاتورية العالمية الظالمة، لم ير العراق وقد خرج من النفق المظلم، ولم ير شعبه المظلوم على كل مستوى، ظلمه حكامه، وظلمه أشقاؤه، وظلمه النظام العالمى، وتكالب الجميع على شعبه وأوسعوه ضربا وحصارا وحرموه من كل حقوقه المشروعة، ويريدون اليوم أن يسلبوه حق الحياة بحجة معاقبة النظام.. لم يسقطوا النظام الذى هرب الأموال وصنع اللصوص.. بل قتلوا شعبا وسرقوا أمة.
مات البياتى، وبكينا الشخص، الذى جسد لنا الرحيل.. ومازلنا نتذكر كلماته.
»ياوطنى البعيد
لأجل عينيك أنا شريد
لأجل عينيك أنا وحيد
فى هذه الدوامة السوداء
فى هذه الأنواء
متى أرى سماءك الزرقاء
ووجهك الصامد يامقبرة الأعداء«
ولم يتصور البياتى أن الحصار والحروب ستحول العراق إلى مقبرة لأطفاله وأبنائه، متغيرات منطقتنا وظروف عالمنا كانت أعجب وأغرب من الخيال، حتى خيال الشاعر الذى يرى الحقيقة، ويكتبها، ليس لأجيالنا فقط، لكن لتعيش على مر العصور.
ورغم أن الشاعر الراحل عبدالوهاب البياتى.. هو أكثر شعرائنا تجسيدا للمأساة فى الحياة، فقد استطاع أن يحِّول معانى الموت وينابيع الدم والدموع والهموم، إلى حدائق تمرح فيها الحياة، ويبدو أن قدرته على الاستشراف اقتربت، بل أصبحت هى الحقيقة..
وارجعوا إلى كلماته.
»بغداد بَرَّحنا الهوى
لكن حراس الحدود
يقفون بالمرصاد..
حراس الحدود..«
إلى أن نسمعه ونحسه وهو يقول
»ماذا سيجدى لنا
من بعد أن سمعوا فى حقدهم خبزنا
بحيرة من دم
تفصل ما بيننا
وعبرها أرضهم
تصقل أغلالنا
إنّا هرمنا، وها
أنت وهذا أنا«
الشاعر الراحل الذى نبكى فيه أمة، سيعيش عبر الكلمات التى لا تنتهى، فهو على رأس حركة الشعر الجديد، وهو نموذج لحيوية أمة وقدرة لغة على الاستمرار، وملاحقة العصر بما تحمله من حرارة ورقة وعمق معنى، ومغزى فكرة، استطاع تطويع الشعر لحركة الحياة المعاصرة.. وخلق صورة حية متنامية متصارعة.
أما البياتى المفكر.. فقد جسد واقعنا المعاصر بصرخة علنية على صفحات »الأهرام العربى«.. بسؤاله أى عالم هذا الذى نعيشه؟ فالقمع لم يعد يستوقف الكتاب، أو الطغيان، سواء فى الشرق الأوسط، أو فى أمريكا اللاتينية، لم يدفعهم إلى الاحتجاج، لكن قضية شخصية مثل كلينتون ومونيكا أخرجت أقلامهم ورفعت أصواتهم..
ويوضح كيف نصنع الديكتاتور؟.. يصنعه البشر لأجل منافع صغيرة.
وعن بغداد يقول هى عندى ليست موجودة.. بغداد التى قرأت عنها فى ألف ليلة وليلة لم يعد لها وجود، اختفت الأسطورة، هى الآن فندق كبير أو شقق مفروشة..
تصوروا احتضار أمة.. التراث أصبح هو الأكثر حياة من الأحياء.
.. رحيل الشاعر لا يستدعى البكاء، بل يجذبنا، ويدفعنا إلىتدبر الكلمات، واستيعاب المعانى، لنفهم الحياة ونتعمق فى كل ما حولنا فى محاولة جادة لفهم لغز الحياة، وهضم معنى الجمال، لنغير الواقع وندفع الهمم نحو الأفضل..
لكننى شخصيا.. أشعر عند رحيل العظماء والمبدعين بالخوف.. لعدم قدرة واقعنا المعاصر وظروفنا الراهنة على اكتشاف نظائرهم، ودفعهم للتعبير عن حياتنا، واستخلاص الحكمة والجمال الذى يجعل لحياتنا قيمة ومعنى.
وأشعر وزملائى فى »الأهرام العربى«.. أننا فقدنا الشاعر والكاتب.. بعد أن بذلنا جهودا ليكتب لنا عبر مجلتنا.. وسوف نعتز بمقالته التىنشرناها تحت عنوان »كاتب وقضية.. حكايتى مع الرقابة«..
ثم اختطفه الموت..
ونقول معه
»الموت والحياة هما معا
يتثاقلان فى الجسد
ويغلفان الدنيا
ويشتبكان بأيديهما
ويتمايلان كأنهما عاشقان
يلعبان لعبة غامضة غريبة«