جراح الترابى والبشير

كتبت منذ سنوات عن الفتنة والفتّان، وساعتها كنت أتصور أنها فتنة واحدة، لكننى وجدتها حزمة من الفتن، جرّت البلاد بفعل الهوس الدينى، إلى هزّ الاستقرار السياسى والاقتصادى للسودان، وكان وراء كل ذلك د. حسن الترابى، الذى حول السودان بعد انقلاب البشير العسكرى فى 30 يونيو 1989 إلى بؤرة ومركز تدريب وتجمع للإرهابيين من كل الأجناس، وانطلق يخطط ليصبح زعيما إقليميا يبشّر بالدولة الإسلامية، ويعمل على تصدير الثورات والفتن إلى العالم العربى، وتدبير المكائد والاغتيالات لزعماء المنطقة.
وبدلا من إنقاذ السودان كما سمى ثورته انفجر الوضع الداخلى، وانتقلت الحرب الأهلية الدائرة فى الجنوب لتصبح بين الشماليين أنفسهم، وهجر السودانيون بلادهم بالملايين، وتشكلت جبهة عريضة من المعارضة بالخارج ضمت الأضداد وسياسيى السودان من كل الأطياف والانتماءات، فى محاولة لإنقاذ بلدهم من ديكتاتورية »شديدة القسوة تجمع بين العسكرية والدين«، بل إنها قامت بعسكرة المجتمع المدنى، وفككت القوات المسلحة، وأعلت من شأن الميليشيات العسكرية »الدبابين«.
وكان أخطر المناطق حساسية هى أن السودان المضطرب داخليا، والمستنزف فى حرب أهلية، تحول صراعه الداخلى ليصبح ضد كل جيرانه »العرب والأفارقة« بل ضد كل المنطقة والعالم الخارجى وقواه الفاعلة.
ومن هنا أصبح السودان مهددا بالانقسام الداخلى، وانهيار نظامه، وتفكك الدولة، ومنذ أحداث أو قرارات 5 رمضان الماضى فى نهاية عام 1999. بدا الأمر وكأن هناك انفراجا سودانيا بتحجيم الترابى، فى أعقابها بدأت صفحة جديدة من الحوار مع قوى المعارضة فى الخارج، ثم انتقال بعض رموز المعارضة للعودة إلى السودان، وكأن بوادر التغيير عادت إلى السودان.
إلى أن كانت قرارات البشير الأخيرة بإبعاد الترابى من حلبة اللعبة السياسية، التى وضعت السودان فى موقف صعب للغاية، وأمام مفترق طرق حقيقى أو لنقل اختبارا حقيقيا للبشير والترابى، اللذين صنعا نظام السودان معا فى سنوات التسعينيات، وكادا يؤديان إلى انهيار بلدهما، وأن تصل الأمور إلى سيناريو الصومال، أو تناحر أفغانستان.
الاختيار أمام الدكتور الترابى، هو أن يضع مستقبل بلاده قبل طموحاته السياسية، وألا يلجأ إلى إثارة الاضطرابات والفتن، وهى هوايته القديمة، وأن يتوقف عن إطلاق الشائعات، وإثارة النعرات كالتى روجها أخيرا بما عرف بالكتاب الأسود، والتى ـ يمارس فيها فى شرق وغرب السودان ـ مخططاته على أسس عرقية، تؤلب الأطراف على الخرطوم.
وعلى الترابى أن يقبل بالرغبة الشعبية التى فرضت على الرئيس البشير اتخاذ قراراته الضرورية لإنقاذ السودان من تردى أوضاعه الداخلية ومكانته الإقليمية.
ونعتقد أن الترابى سيقبل ولن يتمادى فى إثارة الاضطرابات، ليس لثقتنا فى الدكتور الترابى السياسية، فهذه الثقة معدومة، لكن لحنكته السياسية وبراعته فى فنون السياسة والمؤامرات، وقدرته على معرفة أن ظروف الخريطة السياسية الداخلية التى يلعب عليها ليست هى نفس الظروف التى مهدت الطريق له للاستيلاء على الانقلاب العسكرى فى نهاية الثمانينيات، كما أن المناخ الإقليمى والعالمى قد تغير كثيرا، ولا يمكن أن يقبل باستمرار نفس المناورات والسياسات السابقة، كما أن ظروف السودان وشعبه لن تمكنه طويلا من اللعب بمقدراته أو دفعه إلى المناخ الانتحارى الذى كان يقوده إليه طوال السنوات الماضية.
لكن الأهم بالنسبة للسودان وللعالم العربى، هو ترقب خطوات الرئيس البشير والقيادة المتعاونة معه وتوجهاته المستقبلية لتحقيق الوفاق الوطنى فى السودان، وخلق سياسة جديدة تستوعب كل القوى السياسية الفاعلة والمؤثرة فى حياة السودان منذ استقلاله حتى الآن، والعمل على وضع حد للحرب الأهلية المحتدمة منذ إطلاق حركة جارانج فى الجنوب 1983 وما قبلها فى حروب الستينيات وعناصر التمرد والانفصال فى كل تاريخ السودان المعاصر.
السودان الآن فى حاجة إلى أن يدرك الجميع وبأسس جديدة أنه لا يمكن لأى قوى سياسية أن تحقق مصالحها منفردة، وأن تكون مستعدة لإقامة وفاق سودانى تضحى فيه بكل ما هو ذاتى من أجل مصلحة السودان ككل.
وأن تدرك القوى القديمة والمسيطرة أن هناك أجيالا جديدة ومنطقا عصريا مختلفا يجب استيعابه فى المعادلة السودانية.
نعم السودان فى حاجة إلى مرحلة انتقالية، أعتقد أنها طويلة لكى تتضمد جراح جبهة الترابى وسياساته، لكن لكى تنجح تلك المرحلة الانتقالية، يجب أن تضم كل القوى المتصارعة والمختلفة فى حكومة واحدة، تتعلم كيف تحكم مثل الحكومات الائتلافية فى كل دول العالم المتقدم، التى يجب أن تضع أجندة السودان والسودانيين فى المقدمة قبل كل الأجندات الخاصة للأحزاب وللسياسيين المختلفين.
فى تلك الحالة، سوف نعتقد جميعا أن الشعب السودانى قد شفى من فتن الفتانين، ووضع بلاده ومستقبلها فى الطريق الصحيح.
وعندها لن تكون تضحيات الشعب وصبره الطويل قد ضاعا هباء، بل استطاع أن يستثمر الظروف الصعبة لكى يخلق واقعا جديدا ومستقبلا مشرقا.