الثورة ودولة الثورة

حيث إنني من مواليد الثورة, وعشت عمري كله, وسأعيشه في ظل حكم الثورة ورموزها المتعاقبة من أبناء شعب مصر, وحيث إن الثورة تحتفل بعيدها الخمسين, وأنا معها أحتفل بهذا العمر, فإنني أشعر بأن الثورة مستمرة, وأتطلع في داخلي أن تصل جمهورية الثورة إلي بر الأمان والازدهار والنمو الدائم, ولقد شعرت بالفخر باحتفال المصريين بالعيد الخمسين, وبتكريم كل رموز الثورة وجنودها لا فرق بين قائد وجندي, وبين جمهورية وجمهورية, فنحن أبناء الثورة لم ولن نورث خلافاتها وصراعاتها, بل نحن جميعا مصممون علي انتصارها, لأن انتصارها هو انتصار المصريين كلهم في الحياة, ويعبر عن تطورهم مع الزمن, أما الخلافات والصراعات بين رموز الجمهوريات المتتابعة فلا يعني أن ننكر أن المصريين في لحظة نادرة من الزمن( وهي23 يوليو1952) صمموا علي المساواة والعدالة بين أبنائهم, حتي ولو كان ذلك من الناحية النظرية, فأسقطو ملكية فاسدة, وحتي ولو لم تكن فاسدة فإنها كانت رمزا للحاكم الأجنبي تحت زعم عدم قدرة الفلاحين المصريين علي حكم أنفسهم, فاستوردوا لهم حاكما, استطاعت الشخصية المصرية القوية والصلبة الجذور امتصاص هذا الحاكم وتمصيره, وفي النهاية الثورة والفلاحون والضباط اسقطوا الملكية وأنهوا عصر الإقطاع والباشوات, وكانوا قادرين في تلك اللحظة علي أن يحققوا المساواة بين المصريين ويرفعوا من شأن البسطاء والفقراء والطبقات الوسطي ليقولوا للطبقات العليا والتمييز الطبقي البغيض, إن جميع المواطنين سواء في دولة واحدة تعتز بالمصري لكونه مصريا وأسرة يقبلون أيديهم دونما سبب إلا الضعف استمرارا لعصور بائدة وذلك هو الانتصار الأول للثورة.
إذا كانت الخمسون عاما الماضية صراعا مستمرا وحروبا عنيفة فلنتجاوز كل هذه التواريخ ولنقف علي الأرض التي تحكمنا الآن وتقول كل أنصار وفرق الجمهوريات والتحزب السياسي إن الثورة مازالت مستمرة ولم تنته برحيل عبدالناصر في عام1971, أو بانتصار1973, أو بتوقف الطريق الاشتراكي وفتح باب الاقتصاد الحر في1974, أو بوفاة الرئيس أنور السادات ثالث رئيس جمهورية من الضباط الأحرار في1981, ولكن الثورة مستمرة في شرعية المؤسسات التي حققت نصر اكتوبر1973, وصححت هزيمة1967, ممثلة في الرئيس حسني مبارك رمزا لأهم وأقدم مؤسسة مصرية قادرة علي إنجاب الرجال يواصل عطاءه لكي يجعل جمهورية الثورة ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وسلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية قادرة علي الحركة والعمل بفاعلية وبعيدا عن الصراعات والخلافات, بحيوية وقدرة تحفظ للمصريين حريتهم وانسجامهم وتكيفهم السياسي وتطلق لهم حريات واسعة في مجالات عديدة أهمها الاقتصاد والثقافة والفنون وتكون قادرة علي حمايتهم ليس من عدوان خارجي فقط ولكن من تعصب وجهل وفوضي داخلية, تعود بهم إلي الوراء تحت أي حجج أو مسميات حتي ولو كانت ديمقراطية! أسري لماض بغيض يعود بهم للقرون الوسطي أو أن تسيطر علي الحكم ديكتاتوريات أو فاشية سياسية أو دينية.
استمرار الثورة وجمهورياتها المتعاقبة وهي الضمانة الوحيدة لاستمرار مؤسسات المجتمع المدني في تفاعلها نحو البناء والعمل المتطور للتخلص من الأمية والجهل والتعصب التي تسود في بعض الفئات وبأغلبية واضحة.
واستمرار الثورة وجمهورياتها أيضا هي الضمانة للزواج بين مؤسسة المجتمع المدني والعسكري وصولا إلي استقرار حقيقي ونمو يخرج البلاد من المأزق السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تعيشه ويحتاج إلي بعض الوقت إلي تضافر كل الجهود نحو بناء مؤسسات حقيقية في كل ربوع مصر.
إذا نجحنا في تحقيق مصالحات مع كل تاريخنا وتصويب تجربتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية بكل صراحة وعبر مراحل تاريخنا فإننا نعتبر ذلك مؤشرا إيجابيا عن نجاح الثورة المصرية, وحتي الآن يكفي الثورة استمراريتها دون انقلاب عليها, وأن تراكم عمليات التصحيح المستمر فيها لا تحدث شروخا في مسيرتها رغم صوتها العالي, فإنها مازالت في طور المقبول. لكننا الآن ونحن نحتفل بالعيد الخمسين نشعر بالارتياح لأن كل مؤسساتنا تتفاعل وتنمو, وأن الحراك السياسي والاقتصادي الاجتماعي في حوار حر وفعال وأن مصالح المجتمع والشعب الحيوية في أيدي وعقل حكيم يديرها بدقة وميزان من ذهب, ويهدف إلي تحقيق مصالحها ويعمل بكفاءة واقتدار ليس لبناء بنية أساسية سياسية واقتصادية فقط, بل لبناء مؤسسات فعالة وتوجد شخصيات وقوي بشرية حرة, وخلاقة تتخلص من عقد الماضي وتتطلع للمستقبل بكل مسئولية وتثق في أنها قادرة علي البناء والأهم أنها تنظر لمستقبلها باطمئنان وحاضرها بثقة واعية للمخاطر تري أنها مالكة لزمام التصحيح والعمل المستمر ولا تنظر لماضيها بغضب ولكن بتقييم حقيقي, فقد استطاعت في50 عاما تصحيح الكثير من الأخطاء الجسيمة, وأنها تكمل المسيرة, لأن حلقات التاريخ كل لا يتجزأ وسبيكة من طموحات شعب وأمة سوف تستطيع أن تخرج من أزمتها بسرعة وتربط حاضرها ومستقبلها بتاريخها القديم الذي لا ينازع أحد أنه مهد الحضارة الإنسانية.