مقالات الأهرام اليومى

رهان المستقبل‏..‏ ليس بين جحر صدام وكهف بن لادن‏!‏

علينا أن نصل إلي الحقيقة‏,‏ حتي لا نكون مثل الذين أصابتهم صدمة الاعتقال‏,‏ فبدوا أمام الناس كالمخدرين‏,‏ بعد أن ظهر أحد أبطالهم بصورة مهينة ومزرية‏,‏ وهو من كانت صوره تظهر فائقة البطولة والشجاعة‏,‏ أو لا نكون مثل كثيرين يصابون بحالة من الرفض أو النفور المعرفي‏,‏ وهي حالة مشهورة في علم النفس‏,‏ تصيب الأفراد والشعوب‏,‏ وتجعلها غير راغبة في أن تصدق‏.‏
هاتان الحالتان ظهرتا بعد الاعتقال المباغت للرئيس العراقي المخلوع صدام حسين الأحد‏2003/12/14,‏ وكأنما العام الحالي‏,‏ يرفض أن ينتهي إلا بإسدال الستار علي مرحلة أليمة من تاريخ العراق والعرب‏,‏ وبصورة كاشفة‏,‏ حتي العري‏,‏ لكثير من الأشياء‏,‏ اعتقدنا أنها كالحقائق‏,‏ بعد أن عاشت معنا طويلا‏,‏ دون أن نكشفها‏,‏ أو حتي نحاول أن نسبر غورها‏,‏ ونعرف أين الحقيقة من الخيال فيها‏.‏

لكل هؤلاء أقول لهم‏,‏ لا تصدقوا الذين اختزلوا هذا السقوط المهين‏,‏ في أنه سقوط للعرب‏,‏ إلا إذا اعتقدنا‏,‏ كما يراد لنا‏,‏ أننا جميعا صدام‏,‏ وتلك فرية كاذبة صدقها البعض‏,‏ وراحوا يروجون لها بصوت عال‏,‏ عسي أن يصدقها الجميع‏,‏ وتصبح حقيقة‏,‏ في زمن غياب الحقائق‏,‏ وحتي إذا استطاع أصحاب الصوت العالي أن نصدقها بعض الوقت‏,‏ فهي حقيقة زائفة‏,‏ سرعان ما تنكشف وتنسحب بطريقة مزرية علي من صنعها‏,‏ أو من صدقها وروج لها‏,‏ فصدام ليس بديلا للكرامة‏,‏ إلا إذا كانت الكرامة تعني الموت والمقابر الجماعية للآخرين‏,‏ والحياة الآمنة لشخص واحد‏,‏ ولأسرته وجماعته علي حساب الوطن كله‏.‏
نفس هذا الموقف المزري‏,‏ استغله البعض من المتطرفين‏,‏ عندما أعلنت الحرب علي أسامة بن لادن‏,‏ مصورين الموقف علي غير حقيقته‏,‏ خالطين بين الإسلام والتطرف‏,‏ فظلت لعبة الخلط هذه مستمرة‏,‏ لكن الحقيقة سرعان ما ظهرت جلية‏,‏ ونحن لا نريد أن نكون فريسة لخلط الأوراق‏,‏ فتأخذنا العزة بالإثم‏,‏ فرفض الاحتلال الأمريكي للعراق شيء‏,‏ وسقوط الطاغية وتقديمه للمحاكمة شيء آخر‏.‏

أما صدام حسين نفسه فقد وفر‏,‏ للميديا الشغوفة بالروايات السياسية‏,‏ وقودا حيا ومتلاحقا من حياته الإغريقية‏,‏ ومن وحشيته الشديدة‏,‏ منذ صعود نجمه في الثلاثين من عمره‏,‏ بعد انقلاب البعث في العراق عام‏1968,‏ ثم وهو نائب الرئيس في‏1969,‏ وفي‏1972‏ بعد احتكاره السلطة في العراق‏,‏ ولن ينتهي دوره كوقود للإعلام بالقبض عليه‏,‏ إنما سوف يبدأ مرحلة جديدة‏,‏ انتهت منها اللعبة الأولي وبدأت فيها المسرحية العبثية‏,‏ فالمحاكمة هي ورقة صدام الرابحة‏,‏ وسوف تستغل ككنز ثمين للمعلومات‏,‏ يستفيد بها الجميع‏,‏ خاصة الذين استفادوا من أخطائه الجسيمة وجرائمه المروعة في أثناء سنوات حكمه‏,‏ التي وصلت إلي خمسة وثلاثين عاما‏,‏ بدأت بديكتاتورية فظة ضد شعبه‏,‏ وحروب عبثية ضد جيرانه وأشقائه‏,‏ وانتهت بالقبض عليه‏.‏
وإذا كان صدام حسين السياسي قد سقط‏,‏ فلم يكن ذلك يوم القبض عليه‏,‏ وليس يوم سقوط بغداد في التاسع من أبريل الماضي‏,‏ إنما سقط في التسعينيات بعد غزو الكويت وهزيمته وخروجه منها‏,‏ ومع كل ذلك بقي مكابرا‏,‏ معتقدا أنه يستطيع العودة إلي مكانته القديمة ليقود العرب‏,‏ وظل يغذي المظاهرات والحشود والهتافات ضد أعدائه‏,‏ مستخدما فيها الذين أغرقهم بالمال‏,‏ في الوقت الذي ترك فيه شعب العراق فقيرا معدما‏,‏ ولم يكتف بذلك فقط‏,‏ بل قتل من أهله أكثر من مليوني عراقي‏,‏ فكانت خاتمة حياته‏,‏ ليس كأكبر مستبد عربي‏,‏ يمتاز برؤية منحرفة عن دوره في التاريخ‏,‏ وليس كضحية نظام أفاق لا يسمع ولا يري‏,‏ إلا ما يقوله فقط‏,‏ إنما كشخص مقامر أراد تلك الخاتمة‏,‏ ليكشف عن أنه كان مقامرا علي الجميع‏,‏ حتي علي أولاده وأسرته‏,‏ وحياة ومستقبل شعبه‏,‏ أما هذه المقامرة عندما تصل إلي حياته الشخصية‏,‏ فهي عزيزة عليه‏,‏ حتي لو استسلم للقوة التي هزمته بشكل مهين‏,‏ وبتلك الخاتمة المزرية حرم من ميتة عزيزة تحفظ ماء وجهه وتاريخه‏.‏

وهنا أقول أسدلوا الستار علي حقبتي صدام وبن لادن‏,‏ ولا تنظروا وراءكم بغضب إلي هتافات بالروح بالدم نفديك‏(….)‏ أو الحلول السهلة والبسيطة‏,‏ كـ الإسلام هو الحل كما يلخصها المتطرفون‏,‏ ولا تستوردوا أفكار بعض البعض دينيا وقوميا وتقولوا بأنه لا حل لنا إلا بالانتحار وتدمير العالم‏,‏ فبدلا من ذلك كله علينا أن نرفض الديكتاتورية‏,‏ وقمع الحريات‏,‏ فكفي ما وصلنا إليه‏,‏ ولنجعل من هذه المنطلقات وسيلة جديدة للبناء والعمل الجاد‏,‏ ولنأخذ من صورتي صدام وبن لادن‏,‏ وكهوفهما وخنادقهما‏,‏ عنصرا محفزا لنا‏,‏ وليس للبكاء علي الأطلال‏,‏ ولنجعلهما نقطتي البدء للتغيير‏,‏ ونهاية لعصور التسلط والاستبداد‏,‏ التي ظلت تسود داخل حياتنا وبيوتنا وبلادنا لسنوات طويلة‏,‏ ولنقبض جميعا علي صدام حسين وبن لادن من داخل ذواتنا ومن بين أنفسنا لنخلق واقعا جديدا‏,‏ لحياتنا وبلادنا‏,‏ ولنخرجهما من عقولنا ونفوسنا‏,‏ ولا نجعلهما يعيشان في ضمائرنا ويفسدان علينا الحياة ويعطلان علينا رؤية المستقبل واستشرافه الذي سيكون أفضل قطعا بدونهما‏.‏
وإذا كنا لا نملك الآن مؤسسات تدرك مخاطر الحصول علي فرصة الحكم لكي تنطلق ببلادها نحو التغيير والتقدم والتحديث‏,‏ فإننا نملك أن نقول للشعوب لا تصنعوا أصناما وتعبدوها‏,‏ ثم تكتشفوا بعد فوات الأوان أنهم كانوا فراغا‏,‏ فالديكتاتور لا يصنع نفسه‏,‏ ولكن يصنعه المريدون والنفوس الضعيفة‏.‏

وأمامنا الآن فرص كثيرة‏,‏ لتتحرك النخب في الإصلاحين السياسي والاقتصادي‏,‏ لنقيم المؤسسات الصحيحة والصحية‏,‏ حتي يقوي المجتمع‏,‏ ويكون قادرا بمؤسساته علي أن يقمع الفساد والديكتاتورية والتسلط‏,‏ ولا تنتظروا صلاح الدين أو عنترة أو حتي الشيخ المتطهر‏,‏ بالمفهوم النضالي أو الشعبي أو الديني‏,‏ فهذا تبسيط مخل ولن يأتي‏,‏ فلم يعد هناك المستبد العادل‏,‏ فهذا هو الديكتاتور بعينه‏,‏ مصحوب بتبرير وسائل الإعلام و أقلام المثقفين‏,‏ كهنة العصور الحديثة‏.‏
فهل نأخذ العبرة من الأحداث ونمسك بخيوط الحقيقة من الكوارث‏,‏ أم نجعلها تتسرب من تحت أيدينا كعادتنا دائما‏,‏ فيصبح استمرار الكوارث وتكرارها شيئا مألوفا؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى