مقالات الأهرام اليومى

مبارك ـ خاتمي ومستقبل الشرق الأوسط

وصف كثيرون لقاء الرئيس مبارك‏,‏ والرئيس الإيراني محمد خاتمي الذي جري الأربعاء‏10‏ ديسمبر‏2003‏ بأنه تاريخي وهو وصف حقيقي‏,‏ لأنه اللقاء الأول بين زعيمي البلدين بعد قطيعة استمرت‏24‏ عاما‏,‏ وهي كل عمر الثورة الإيرانية‏.‏
لكن وصف اللقاء بالتاريخي فقط لا يصلح للتعبير عما جري رغم دقته‏.‏ فهو لقاء له ما بعده أو هكذا نتصور قمة جنيف‏,‏ ونعني أن المنطقة المضطربة التي نعيش فيها‏,‏ أي الشرق الأوسط‏,‏ مقبلة علي تغيير استراتيجي إذا أحسنا إدارة ما بعد هذا اللقاء والبناء عليه وفهم مغزاه والتعامل السياسي الذكي طبقا لروح العصر ومتغيراته‏.‏

فالبلدان المهمان أوقفا صراعا لا مبرر له‏,‏ وانتقلا إلي مرحلة جديدة من العلاقات‏,‏ فمصر وإيران‏,‏ حتي تصلا إلي هذه المرحلة الراهنة أدركتا أنه لم تكن اللقاءات الدورية أو الزيارات بين المثقفين والإعلاميين كافية أو حتي علي صعيد الوزراء بمن فيهم وزراء الخارجية ورجال الأعمال أو تبادل التجارة والسياحة لأن العمود الفقري للعلاقات الشرق أوسطية للدول الحاكمة فيها‏,‏ هو السياسة‏,‏ وعلاقة كالتي بين مصر وإيران يجب ألا تكون طبيعية أو عادية كما وصفت‏,‏ أو كما هي الآن فقط‏,‏ ولكن يجب أن تكون حميمة وعميقة لأن إقليم الشرق الأوسط‏,‏ حتي يخرج من أوضاعه المأساوية الصعبة الراهنة‏,‏ يحتاج إلي عمليات جراحية علي أكثر من صعيد‏,‏ ومن ضمن هذه العمليات‏,‏ عودة الثقة والروح والفهم بين بلدين بحجم مصر وإيران لمكانتهما في الإقليم‏,‏ حجما وسكانا وتاريخا ودورا وتأثيرا ومصالح متشابكة‏,‏ ولا يمكن لأي من البلدين أن يهمل ذلك أو يتجاهله‏.‏
من هذا المبدأ لا يمكن لمصر التي تفكر في مستقبل المنطقة كلها أن تلجأ إلي افتعال أزمة مع إيران أو غيرها‏,‏ فمصر تعرف بدقة الأدوار التاريخية لكل بلد آخر‏,‏ ولا تريد أن تفرض زعامة أو تقلل من شأن أي قوة أخري في محيط الشرق الأوسط‏.‏

لكن مصر لعبت دور حماية المصالح الإقليمية وقامت بالأدوار الحاسمة لصالح إقليم الشرق الأوسط كله‏,‏ دون أن تزايد أو تفرض آراءها علي أحد رغم أن التاريخ أثبت أنها كانت علي صواب ولا يمكن تجاوز دورها بحسابات القوة أو غيرها من أشكال الهيمنة‏.‏
فكل الاضطرابات الإقليمية التي ظهرت في عالم الشرق الأوسط كانت نتيجة ظهور قوي مختلفة‏,‏ تصورت أنها قادرة علي إدارته بمفردها أو فرض السياسات بالقوة علي الآخرين‏,‏ ولعل الثورة الإيرانية في بدايتها تصورت أنها قادرة بما تملك من قوة روحية ودينية علي أن تغير المنطقة‏,‏ وتفرض وصايتها وأفكارها علي الآخرين مثلما فعلت إسرائيل التي تصورت أن قوتها العسكرية أو النووية أو حتي الاقتصادية تعطيها الحق في سلب الحقوق أو حتي أن تكون القوة الإقليمية الكبري بلا منازع‏.‏

ومصر بحكم رؤيتها التاريخية وعراقة حضارتها ونضجها الراهن تدرك تماما أن القوة وحدها‏,‏ لا تفرض إرادتها دون عدل واحترام حقوق الآخرين ومصالحهم‏,‏ ولذلك تستطيع أن تقول رأيها وتقف ضد المطامع الإسرائيلية‏,‏ وتشرح مخاطر السياسات الأمريكية الخاطئة‏,‏ بل تقوم بتصويبها‏.‏
فمن باب أولي أن تصحح للأشقاء مواقفهم وترشد سياسة شركائها في المنطقة وهذا ما قامت به عندما اندلعت الأزمة السورية ـ التركية وتدخلت ووجدت تجاوبا عندهما‏,‏ وكان دورها مؤثرا واستجابتهما عظيمة فتجنبت منطقتنا صراعا جديدا لنا لانزال في غني عنه‏.‏

ونحن نتصور أن اللقاء بين الرئيسين مبارك وخاتمي يمكن أن يفتح ملفات كثيرة لمستقبل منطقة الشرق الأوسط إذا أحسن شركاء الرئيس الإيراني محمد خاتمي إدراك الرؤية المصرية‏,‏ لأن الشرق الأوسط لا تحل أزماته الآن بسهولة فقط‏,‏ لكنها تتزايد وتستحكم حلقاتها‏,‏ فقد كانت أمامنا مشكلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي بتداعياتها وتطوراتها المختلفة علي أكثر من صعيد‏.‏ فإذا بنا أمام مشكلة الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق‏,‏ بل نعاني تهديد أمريكا بتوسيع نطاق عملياتها في منطقتنا ولا ننسي مخاطر الحرب علي الإرهاب وشموليتها وانتشار خلاياها كالأمراض الخبيثة مهددة المناعة وصحة مجتمعاتنا‏,‏ فتداعياتها سوف تفجر ينابيع التطرف ليس في منطقتنا وحدها‏,‏ لكن في كل أنحاء العالم ضد الإسلام والمسلمين وسوف تشوه صورتهم لإضعاف مكانة دينهم وقدرة شعوبهم علي الوصول إلي حقوقهم المشروعة حتي لا يلعبوا دورهم الطبيعي‏.‏
إن لقاء الرئيسين مبارك وخاتمي‏,‏ أثار شجوننا وفجر داخلنا طاقات من الأمل لمنطقة الشرق الأوسط‏,‏ لأنه أغلق ملفا مريرا من سوء الظن والشكوك بين الطرفين بدأ بتصدير الثورة‏,‏ ثم بعدم فهم معني ومغزي استضافة الشاة وتكريمه راحلا في القاهرة وهي الاستضافة التي وجهت لشخص رضا بهلوي لأن مصر لم تنس أنه كان جزءا من التاريخ الإيراني قد لا تراه أجيال اليوم‏,‏ ولكن أجيال الغد‏,‏ ستدرك عمق ومغزي التراحم‏,‏ وأن الشقيق المصري تدخل لتكريم الميت لأنه جزء من التاريخ الحي لمنطقتنا‏,‏ فالتكريم لم يكن لرضا بهلوي وحده ولكن لإيران وتاريخها‏,‏ فالحاكم زائل‏,‏ لكن الشعوب باقية‏,‏ ويبقي من الحاكم عمق الرؤية وتحقيق المصالح المشروعة لشعبه ومنطقته‏.‏

ولنتذكر أن مبادرة خاتمي بطلب لقاء مبارك لقيت تجاوبا كبيرا وبادرة أكبر من الرئيس مبارك‏,‏ فقد ذهب إلي لقاء خاتمي في محل إقامته‏.‏
ولكن ما بعد ذلك نحتاج إلي سياسات واقعية وعمل دءوب حتي نحمي المنطقة مما يخطط لها ونوقف الانهيار‏,‏ والتدخل الخارجي‏,‏ في شئونها وأمامنا الكثير من العمل‏,‏ لأن أوضاعنا الداخلية أصبحت شاقة‏,‏ وما فاتنا أكثر كما أن الأخطار حولنا كبيرة‏,‏ لا يمكن تجاوزها بسهولة‏,‏ إلا بالتعاون والتنسيق وعمق الرؤية وذلك سوف يقلل الثمن ويحد من الخسائر ويزيد من فرص الاستقرار‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى