أبعـاد غائبة في جريمة الزمالك الدمويـة

لم تكن جريمة الزمالك, التي راحت ضحيتها فنانة تونسية شهيرة, هي أكثر الجرائم دموية أو إثارة, وأزعم أنها لن تكون الأخيرة, ولكنها جريمة محزنة, توافرت لها كل عناصر الإثارة, بسبب شهرة النجمة ذكري محمد, ونوعية القاتل أيمن السويدي, فهو رجل أعمال وسليل أسرة معروفة في الصناعة والتجارة, من هنا كانت الجريمة من العيار الثقيل, وجريمة رأي عام تصلح وقودا مناسبا لوسائل الإعلام بكل أنواعها( مكتوبة ومسموعة ومرئية وإلكترونية) لتجذب الجميع, فيها المال والشهرة والجنس.
إذن كانت المشهيات علي مائدة واحدة, تغمرها دماء غزيرة, سالت علي الأرض, من خلال إثارة دامية, انتقلت من الزمالك, من شقة فاخرة مساحتها اكثر من كيلو متر علي النيل, ليس إلي تونس فقط, بل إلي كل أرجاء المعمورة التي تغني وتسمع بالعربية لان الفناين ورجال الأعمال هم اكثر الناس اثارة للجدل والاهتمام فامتدت الاثارة الي أسرهم وجمهورهم المتعطش للفنون, والنجمة القتيلة, وهي فنانة من عالم الغناء الشبابي الذي أصبح يجذب الشباب, أكثر القطاعات حضورا بين الجماهير, بعد أن أصبح الرقص والغناء من اهتمامها الرئيسي.
إذن, تجمعت للجريمة خصائص وقماشة واسعة للحديث, وقد جاءت نتيجة لخلل أو مرض كامن في التركيبة الاجتماعية, وتجمعت لها عناصرمتعددة منها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي والسلوكي, ومن عناصر المبالغة فيها انه عقب الحادث خرجت مظاهرات تونسية ووجهت النقد للاعلام المصري لانه سارع باتهام الفنانة, وهنا حصل التعصب المقيت, ونسوا أن الفنانة, رغم أنها تونسية, فهي الآن مصرية, وتعيش في القاهرة, ومتزوجة من مصري.
ولعل أهم ما تكشف عنه تلك الجريمة هو البعد الاقتصادي المتمثل في الأموال التي ضخت من البنوك للكثير من رجال الأعمال, والمؤسسات دون أسس ومعايير اقتصادية سليمة, لذلك فإن تأخير الإصلاح المصرفي في مصر لم يتسبب في ضياع الأموال وتخريب البنوك العامة فقط, ولكنه, كان وراء الجريمة وتفشي البطالة, فالأموال ضاعت وهربت وتبددت في استهلاك غير واع, وشيوع الجريمة ولم تذهب إلي المشروعات والتنمية, لأننا لم نعط الأموال نتيجة دراسة ائتمانية سليمة لطبيعة المشروع وأدائه في المستقبل وعائده وجدواه, ولكنها كانت تعطي لمشروعات, إما نتيجة لاسم العميل, وعائلته الكبيرة, أو لضمانات عقارية لاتسدد, ولا تصلح للبيع في سوق يسودها الكساد وتهرب منها الأموال, وفي العالم كله هناك عقول مصرفية وائتمانية جادة, وقادرة علي اختيار المشروع وتحديد شخصية العميل, وقدرته علي إدارة مشروعه وتطويره ونموه, فتحوطه بالرعاية والمتابعة حتي يكتمل المشروع.
فالبنك هناك يكون شريكا للعميل وضامنا لنجاحه, لا ليبتزه أو يسرقه بفوائد ومصاريف مبالغ فيها تغطي خسائره أو يأخذها من تحت الطرابيزة, لكن هنا في بنوكنا بسبب فساد الإدارة, وضعف العاملين, يهرب العميل ويفشل المشروع, وهناك أيضا لا تعطي الأموال لشخص مهما يكن وضعه, ومهما تكن إمكاناته المالية, بل تعطي لقدراته العملية ومؤهلاته وخبراته المهنية وشركائه, وأدائه الفعال في العمل.
إن فساد البنوك وضعف إدارتها, وعدم المتابعة قد خلق طبقة فاسدة, وأموالا متهربة, ومشروعات متعثرة, وظواهر وأدبيات للتلوث الاقتصادي لم تتم دراستها إلي الآن بشكل أو آخر في أدبيات الاقتصاد الرأسمالي عموما, والآن علينا أن نقوم بمثل هذه الدراسة.
وإذا كنا لا نملك طبقة من المصرفيين المؤهلين ذوي الكفاءة والقدرة, فإنه علينا أن نخطط منذ الآن لإعدادهم وتأهيلهم, ولو بإرسال البعثات للخارج, لأن تقوية الاقتصاد, والحفاظ علي قدرة الاستثمار منوط بإصلاح مصرفي حقيقي, وإدارة حازمة, فإلي الآن مازال الجهاز المصرفي المصري متخبطا, ويحتاج إلي إعادة نظر, وإصلاح حقيقي, لا يتخوف من الخصخصة, وعلينا أن نعترف بأنه يعاني غياب عناصر الكفاءة والإدارة والرقابة المبدعة, والقادرة علي تقديم خدمات وأدوات متطورة وحديثة تتمتع بالمرونة, حتي يخلق الأسواق المزدهرة, ولا يقف وراء الجريمة والفساد والركود والبطالة, كما هو حادث الآن, ولا أبالغ عندما أقول إن المدخر العادي لديه العديد من الملاحظات والتخوفات بل القلق من الجهاز المصرفي في مصر.
أما العنصر الأهم, بل والنداء الذي أرسله إلي الجميع وإلي كل الأسر في مصر الغنية والفقيرة معا, والذي أستوحيه من هذه الجريمة البشعة, فهو الاهتمام بالصحة النفسية للمواطنين في مصر, ولا نريد أن نقول إن من لم يوحدهم العقل, يجمعهم الجنون, فالمنظمات والإحصائيات العالمية تقول إنه نتيجه التغيرات والتوترات الاجتماعية القاسية والصعبة, فإن هناك عشرة ملايين نسمة مرضي نفسيين, بمختلف طبقاتهم في مصر, وأرجو ألا تأخذني العزة بالإثم, فالمرض النفسي ليس عيبا, فهو أنواع متعددة, والعيادة النفسية في العالم كله هي الأكثر انتشارا وشيوعا في عالمنا المعاصر, ورغم أن الإحصائيات الرسمية لدينا تشير إلي وجود2,5 مليون نسمة فقط, وإن كانت الحقيقة هنا غير مؤكدة, فالله أعلم بها, لأننا لا نملك إحصائيات دقيقة, ولكن شيوع المرض النفسي والجرائم المتولدة عنه, أصبح حقيقة, لا يمكن إنكارها, وبالرغم من ذلك, فإن الاهتمام بالدراسات النفسية في جامعاتنا محدود, بل أين طبيب الأسرة النفسي, وأين مؤلفات تقويم السلوك, رغم أهميتها القصوي, في عالم متغير, وحياة صعبة, أصبحت تداعياتها مؤلمة.
مازال هناك الكثير من الأبعاد الغائبة في الجريمة النكراء منها: السلاح والأموال السائلة, في أيد مهزوزة ومريضة نفسيا, إضافة إلي غياب علماء اجتماع ونفس وجامعات وجمعيات وإعلام ومؤسسات مجتمع مدني, وكلها مؤسسات يجب أن توجد الآن حتي تأخذ من هذه الجريمة عبرة لتهز المجتمع المصري, حتي يشفي من أمراضه, ويتخلص منها, ويضع أقدامه علي الطريق الصحيح والسوي..