مبارك.. وضمير الوطن

لحظات دقيقة وفارقة انتابتني في أثناء إلقاء الرئيس مبارك خطابه, في افتتاح الدورة البرلمانية, ظهيرة الأربعاء الماضي18 نوفمبر(25 رمضان), فالرئيس كان حريصا بحكم جديته المعروفة عنه, علي إلقاء خطاب الافتتاح, وهو مصاب بالإنفلونزا الحادة, بل إن درجة حرارته كانت قد واصلت الارتفاع علي مدي الأيام السابقة علي خطابه, وتعرض خلالها لعلاج مكثف بأدوية مختلفة, وبالرغم من ذلك لم يقبل الرئيس بالراحة وتعطيل البرلمان, أو تأجيل الدورة إلي ما بعد العيد.
أما خطاب الرئيس نفسه فقد جاء دقيقا وتفصيليا, حدد فيه مبارك ركائز أساسية لإقامة المجتمع العصري, لاستكمال برنامج الإصلاح الاقتصادي في مصر, الذي يمر بمرحلة تعثر مؤقتة, وقد أشار الرئيس إلي نقطتين مهمتين, الأولي هي: الإسراع في تعديل قانون الاستثمار, لإدراكه أن جذب المستثمرين والنمو الاقتصادي الداخلي, هو الطريق والضمانة الوحيدة للتطور, أما الثانية فخاصة بالجهاز الإداري للدولة, والاثنتان مرتبطتان بالاستثمار وجذب رءوس الأموال, حيث إنهما نقطتا خلل كبير, ومسئولتان عن تأخرنا في نمو الاستثمارات الداخلية وجذب الاستثمارات الخارجية, ولم يفت الرئيس مبارك كعادته أن يحث المواطنين علي الإقبال علي التعليم والعمل والإنتاج وهم آمنون علي أنفسهم, واثقون من أن العدالة والمؤسسات المصرية تحفظ حقوق الجميع.
إن خطاب الرئيس مبارك جاء كوثيقة تفصيلية ودقيقة, لكيفية عمل الحكومة والبرلمان والقطاعين الخاص والمدني, فقد حدد فيه حزمة القوانين التي يجب أن تصدر للنهوض بالإصلاح الداخلي في بلادنا.
كنت أستمع إلي الرئيس, ويدور في ذهني أن صيام الشهر الكريم رمضان, كفيل وحده بأن يفرض علي افتتاح الدورة البرلمانية أن يكون مراسميا فقط, وليس من خلال خطاب عام, يحتوي علي التفاصيل خاصة أن الجميع كان يدرك ويشاهد الرئيس وهو مصاب بالإنفلونزا, وهو ما ظهر علي صوته, بعد أن عاني الدور الذي أصاب الكثيرين خلال هذه الفترة, من تغيير في المناخ, إضافة إلي تأثير الصيام.
ولكنها الجدية والحزم والشدة, التي يأخذ بها الرئيس مبارك نفسه عند تأدية التزاماته ومسئولياته الخاصة بالدولة المصرية, ليس منذ تولي المسئولية الأولي فيها, ولكن منذ صدر شبابه الأول, وبدء حياته العملية, تلك الجدية والمسئولية كانتا شفيعتين ومؤهلتين له ليقود مصر في أصعب الظروف وأحلكها, ليس في بلدنا فقط, ولكن في منطقة الشرق الأوسط والعالم كله.
هذه الخواطر, عن الرئيس, كانت تمر في ذهني, وفي تلك اللحظة حدث أن توقف عن إلقاء خطابه بسبب الوعكة الصحية, التي كانت نتيجة انخفاض ضغط الدم, ومرت علي لحظات ثقيلة, تمنيت خلالها أن يخلد الرئيس للراحة ويخضع للعلاج, ويستمع إلي الأطباء, ويلتزم بنصائحهم, ولكنني تمنيت في الوقت نفسه أن يعود الرئيس إلي القاعة, ولو لدقائق معدودة, لأنني أعرف طبائع الإعلام, وخصائص المهنة, وأنه سوف يستغل هذا الحادث العارض والطبيعي في غير مكانه الصحيح, وشاءت إرادة الله, اللطيف بنا وبرئيسنا, أن يعود لإلقاء خطابه, ويستكمله بالكامل كما يريد, فالرئيس مبارك كان حريصا, رغم كل ظروف المرض العارض, علي تأدية واجبه كاملا دون انتقاص, حتي لو كان يشعر بشدة التعب وإرهاق الصيام.
في تلك اللحظة مر بخاطري أيضا, أن الرئيس مبارك الذي يقود بلدا غير عادي في ظروف غير عادية, يؤدي واجبه, وأنه رئيس حريص دائما علي ألا يتكلم عن نفسه ودوره, فهو عادة ما يضع عمله وواجبه ورؤيته المستقبلية, قبل أن يعدد ماذا فعل أو أنجز هو, وخير شاهد علي ذلك خطابه في الدورة الجديدة فقد كان حريصا علي التغيير الحقيقي, والذي يعني به تغييرا في إدارة المؤسسات بعمل جديد يرفع طاقة الوطن, ويزيد استيعابه للعمل, وللتطور والنمو, فالرئيس مبارك ليس مثل غيره يلجأ إلي المسكنات أو الأعمال التي ترضي الأهواء أو الانفعالات, ثم يكتشف الناس بعد فترة أنهم لم يحققوا شيئا, وأن الرئيس كان قد أرضي انفعالاتهم ورغباتهم المكبوتة, دون تصحيح, غير أن الرئيس غير ذلك, فهو قادر علي أن يلمس الأخطاء ويحددها, ويطالب بالتصحيح, ولا يمل من مواجهة الأخطاء, والتي دائما ما نكررها, ولعل أهمها إدراكه لمخاطر الأزمة السكانية التي يضعها في قمة أولوياته, لأنها نقطة البداية لتصحيح أوضاعنا الداخلية خاصة رفع معيشة المواطنين, وخلق مجتمع صحي حديث لا يعاني أزمات في الصحة أو التعليم أو نقصا في الموارد. في تلك اللحظات الحرجة التي مرت في خاطري عاد الرئيس مبارك لإلقاء خطابه فاستجمعت ذهني, وتذكرت ليس قائدا انتصر في حرب أكتوبر, بل زعيما تولي مقاليد الأمور في مصر, عقب اغتيال رئيسها الراحل السادات, في اللحظة التي كانت فيها البلاد مقبلة علي مرحلة من قلاقل, قد تفتح الباب لحروب داخلية, فاستطاع بحنكة وقدرة ــ تنمان عن فهم دقيق لطبائع وأحوال المصريين, خاصة للمنطقة التي نعيش فيها أي الشرق الأوسط ــ أن يخوض عملا متواصلا, وضع فيه حدا لإرهاب قاتل أسود تربص بالوطن, ولم أقل حربا, فالرئيس لم يخض حربا ضد مواطنيه, بل سعي بالقانون والحزم والحنان في نفس الوقت, ليوقف ظاهرة الإرهاب الأسود التي تفشت بعد ذلك في العالم كله, ولم تقدر عليها دولة كبري مثل الولايات المتحدة الأمريكية, فشنت حروبا متواصلة منذ أن تعرضت لحادث11 سبتمبر2001, هذه الحوادث والكوارث الإرهابية طالت كل شيء ودمرت منطقة الشرق الأوسط, وشملت كل شعوبها وبلدانها حتي الدول البترولية الغنية في الخليج, أو المغرب العربي تعرضت للاهتزاز والضعف والإفقار بسب ظاهرة الإرهاب, لكن مبارك انتصر في هذه المعركة بهدوء, وذكاء وحكمة الرجل الكبير, كزعيم للدولة القديمة مصر.
الرئيس لم يتحدث عن هذه المعركة القاسية الصعبة وتكاليفها وكيف تحملها وتحملتها مصر, ولكنه اعتبرها شيئا عاديا, كان يجب أن يتحمله بحكم مسئوليته ودوره التاريخي, فقام بمهمته دون ضجيج, بل بإنكار للذات بلغ حده الأقصي, تذكرت ما قام به, وقلت في ضميري, إن شعب مصر وأمته سوف يختزنان هذا الدور في ضميرهما, ولن ينسياه, فقد حمي تماسكنا, وحافظ علي البنيان, بل أن البناء والعمل لم يتوقف نتيجة هذه الظاهرة السوداء.. هذا علي صعيد الوطن مصر.
أما علي صعيد الأمة, فإن دور مبارك في الحفاظ والدفاع عن حقوق الفلسطينيين, واستمرار قضيتهم حية في الضمير العربي والعالمي, وحتي داخل المجتمع الإسرائيلي فقصة متميزة وبالغة الثراء, فكان دوره ولايزال يحمل الطابع الوطني المصري العربي الغيور, الذي لا ينسي واجبه وقضاياه, ويدفع الثمن ويؤدي واجبه, ولا ينتظر ثناء أو شكرا من أحد, وهو الذي يستحق كل جوائز السلام الوطنية محليا وإقليميا ودوليا.
إن الرئيس مبارك, صاحب المبادرات والسياسات الحكيمة منذ اندلاع أزمة حرب الخليج الأولي في عام1990, وحتي قبل الحرب الأمريكية العراق واحتلاله, كشفت عن معدنه وقدراته السياسية, في أصعب وأدق الظروف, كل ذلك جعل قيادته رمزا ونموذجا للأجيال الحالية والقادمة, وقد فجرت رلحظات خطاب الرئيس مبارك في شهر رمضان2003, في قلوب المواطنين المصريين ينابيع الحب لقائدهم, وأدركوا معاني نجاحاته وسياساته, والتي لم تكن شيئا عاديا في التاريخ, بل وقفت وراءها قدرة لرئيس أدرك ضرورة واجبه وأداه بأمانة وحكمة واقتدار.
حفظ الله لنا الرئيس ليكمل دوره في الإصلاحين السياسي والاقتصادي, فنحن ننتظر منه الكثير, ونعتقد أن الحكمة الإلهية التي دفعته لقيادة سلاح الطيران قبل حرب73 وإلي سدة الرئاسة في عام1981, ادخرته لوضع مصر علي مسار اقتصادي متقدم وخلق ديمقراطية تقودها مؤسسات حية, ومجتمع حر وحديث, ليصبح جزءا من عالم يؤثر فيه ويتأثر به بفعالية وقوة.