حول خطاب بوش الحـروب لا تصـنع الديمقراطيـة

كرر الرئيس الأمريكي جورج بوش يوم6 نوفمبر الحالي, أخطاءه الجسيمة, منذ أن تقلد منصبه عندما أعلن إستراتيجية أمريكية لنشر الحرية والديمقراطية في الشرق الأوسط, وفي نفس الوقت أعطي لنفسه حق إعطاء درجات لدول المنطقة, حول ما حققته علي صعيد الديمقراطية.
والخطأ ليس في الديمقراطية أو في طريقة نشرها, فهناك رغبة جماعية للشعوب ودول المنطقة في الإصلاحات وتحقيق الديمقراطية, ولكن الخطيئة نتجت عن الإعلان الذي جاء علي لسان بوش هذه المرة, والذي سبق أن نشره كولين باول, وزير الخارجية الأمريكي في مبادرة شهيرة للشراكة الإقليمية مع دول المنطقة, وجاء خطاب بوش ليعيد نفس الكلام في وقت كان يجب فيه أن يكون تركيز الرئيس الأمريكي علي الموقف في الشرق الأوسط, وتحديدا علي دور أمريكا في تحجيم العنف والظلم الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني, المضطهد في أرضه, علي أن يشرح بوش للعالم ولدول المنطقة, كيف فشلت مبادرته لإقامة دولة فلسطينية إلي جوار دولة إسرائيلية, ويبرر لنا لماذا استخدم الفيتو ضد قرار من مجلس الأمن لمنع الجدار العنصري؟ الذي سوف يصبح شاهدا حيا علي الضعف الأمريكي أمام إسرائيل, ولأن هذا الجدار العنصري, الذي يضاعف المظالم الأمريكية والإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني خاصة, والعرب عامة, سوف يضيف نوعا جديدا من التعذيب للفلسطينيين, فبعد الطرد والتشريد, والقتل والاغتصاب, والنوم في المخيمات لأكثر من55 عاما, لحوالي أربعة ملايين نسمة, سينضم إليهم400 ألف نسمة آخرون من الفلسطينيين خلال أشهر قليلة بعد استكمال الجدار, ليعيشوا في كانتونات, أي معازل, وسجون طبيعية, لا يستطيعون في وجودها أن يواصلوا حياتهم بأي وسيلة ممكنة, فلا عمل ولا مستشفيات ولا مدارس ولا قدرة علي الحركة, وذلك يجري أمام أعين المجتمع الدولي الذي صار بلا ضمير, يواجه اليمين الحاكم في إسرائيل, ضد جيرانه, فالجميع يقف عاجزا وضعيفا ومتهافتا أمام إدارة يمينية حمقاء, أجزم بأنها لا تقتل الأمل في السلام للإسرائيليين والفلسطينيين فقط, بل تضع جدارا منيعا لمستقبلها في الشرق الأوسط بعد أن كان السلام يلوح في الأفق.
إن بوش يطرح مبادرة الديمقراطية, في الوقت الذي يفشل فيه في تحقيق الأمن الذي يسبق كل شيء في العراق, لقد كانت الآمال والطموحات الأمريكية بأنهم سوف يزرعون بذرة الأمل في الشرق الأوسط, والتي ستبزغ حقولا خضراء, ومصانع مزدهرة, ومؤسسات سياسية زاهرة, وشعبا متجانسا, ومشروعا ناجحا وطموحا, ينشر الرخاء في المنطقة, ويقدم النموذج الذي سينقل عدواه للآخرين, فإذا بالفشل يتلوه فشل من خلال قرارات متخبطة, إن لم نقل حمقاء تلغي المؤسستين الكبيرتين اللتين تربطان أوصال العراق وتضمنان استقراره, وخروجه من الكارثة أعني الجيش والحكومة العراقيين, أي المؤسسات العسكرية والبيروقراطية, وهما القادرتان علي حفظ الأمن وتوزيع الغذاء والكساء للعراقيين, وبذلك عادت هذه القرارات للعراقيين جميعا, بحجة أن الجميع بعثيون, ونسيت أو تناست واشنطن أن صدام حسين, كان ديكتاتورا وفاشيا ونازيا, وإنه اضطهد جميع العراقيين بمن فيهم البعثيون.
والعراق اليوم لم يصبح أمانا إلا لعصابات المافيا وتجار السلاح والميليشيات المسلحة, وصار العراقيون الأبرياء خائفين ومرتعدين, ولم تعد آمالهم المشروعة في البحث عن بيت يؤيهم أو عمل يطعمهم, تأتي في المقدمة وهي حقوق طبيعية للإنسان, ولكنهم الآن يبحثون عن الأمن والأمان المفقودين, وأصبح كل أب لا يأمن علي ابنته من الاغتصاب والتشريد إلا أن يهرب بها إلي خارج الحدود, وكل أسرة تبيت ليلتها ولا تعرف ما ينتظرها في غدها, هل يموت الابن أو يقتل الأب أو تغتصب الزوجة, أو يؤسر الابن, إنه مستقبل مظلم ونفق ضيق, أدخلته أمريكا للعراق.
إن العراقيين اليوم لا يتذكرون أكثر من نصف مليون طفل قضوا في حصار بلادهم ثلاثة عشر عاما ولكنهم, يتذكرون اليوم إن الحياة نفسها تهرب من تحت أيديهم, لأن شوارعهم مكدسة بالدبابات, بل إن أحياءهم تضرب بالطائرات, وكل أسرة عراقية تبكي بدمها, والعرب جميعا يشاهدون عراق اليوم, وقد انضم إلي طابور المأساة الفلسطينية, ويتساءلون أي ذنب جنته الشعوب؟!
أما أكثر ما أثارني وأفزعني في برنامج بوش الديمقراطي, فهو مطالبته لمصر بإطلاق الديمقراطية, مثلما أطلقت السلام الإقليمي, ونسي بوش أن السلام الذي أطلق مصريا, كان ينتظر أن تتعاون فيه واشنطن, والمجتمع الدولي, لاستكمال السلام للفلسطينيين, والسوريين, واللبنانيين, فلا يمكن أن يتحقق انتعاش سياسي أو اقتصادي في ظل منطقة متوترة صعبة, وقعت فريسة للتطرف والإرهابيين اليمينيين, من جراء جريمة نكراء وقعت في عام1948, وظلما فادحا لشعب, طرد من أرضه ونشهد يوميا مسلسل تعذيبه وتشريده ومعاقبته, وإن مصر شهدت خلال السنوات الثلاث الماضية, أزمات اقتصادية صعبة, لأن الأموال المستثمرة والسائحين هربوا من المنطقة خوفا من الحروب والكوارث التي أشعلتها إسرائيل في المنطقة فكيف كان يمكن أن يهرب الناس من التزاماتهم في مواجهة الكوارث والأزمات والحروب, إن المسئولية التي تقع اليوم علي مصر وغيرها هي حفظ الأمن والحفاظ علي تماسك مجتمعاتها وألا تنزلق إلي الفوضي والإرهاب والتطرف, في ظل مناخ إقليمي صعب وضعتنا فيه أمريكا وإسرائيل.
هل يمكن أن نسأل بوش هل الحرية التي تريدها للشرق الأوسط ولشعوبه, هي تفكيك المؤسسات, وإطلاق الأهواء لإضعاف ما تبقي من تماسك البلاد والمنطقة حتي تقع فريسة سهلة للأهواء اليمينية الإسرائيلية؟!
نقولها بكل صراحة للمشروع الأمريكي إنه يكفينا في مصر الآن, حرية واسعة, للرأي, وإقامة بنية سياسية للنظام الديمقراطي, تتحقق بروية وهدوء, لأننا نعرف المخاطر التي تواجهنا وما ينتظرنا من تبعات.
كان يجب علي بوش قبل إطلاق مبادرة الحرية والديمقراطية, أن يعلن عن برنامج زمني لإعطاء السيادة للعراقيين, وأن يسحب قواته من الشوارع والمدن العراقية, وأن يعطي كل صلاحيات الأمن للمؤسسات العراقية القديمة, فهي الوحيدة القادرة علي إخراج بوش من كارثته أو أزمته في العراق, وأن يلجم اليمين الإسرائيلي, وأن يفرض مشروع الدولة الفلسطينية, وأن يثبت لنفسه وللعالم أنه رئيس دولة قوية علي الجميع, وألا يستأسد علي العرب والفلسطينيين, ويسعي إلي تفكيك السوريين والإيرانيين وتخويف العرب من مشروعه التدميري لشعوبهم وأوطانهم, فاليمين وحكام واشنطن يضعون سدا بينهم وبين الشعوب العربية, متصورين أنهم بذلك ينتقمون لضحايا11 سبتمبر, من الأمريكيين, في حين أن العرب هم أول ضحايا الإرهابيين, ويعرفون قوة الأمريكيين, ولكنهم يدركون بعمق حسهم التاريخي, أن القوة لا تنتصر علي العدل أو الحق قط مهما تكن, ويراهنون علي أن الضمير العالمي في أمريكا وإسرائيل وأوروبا سيواجه جبروت اليمين والتطرف الذي يشعل الحروب, وسوف ينتصر الحق والعدل أخيرا ضد القوة وجبروتها مهما يطل الوقت ويشتد الظلم.