نحو فهم أوسع للحوار الوطني وتوسيع نطاقه

كان غريبا, أن تأخذ بعض القوي السياسية في مصر, دعوة الحوار الوطني, التي أطلقها الحزب الوطني في مؤتمره السنوي الأول بعدم الجدية اللازمة التي تستحقها, أو تتعامل معها طبقا لاتهامات مسبقة, تتنبأ بفشل الحوار أو تتوقع ذلك قبل أن يبدأ أو يبذل الجهد الكافي لإنجاحه.
الدعوة للحوار جاءت من الحزب الحاكم ورغم أنه الأقوي, إلا أنه بادر بالدعوة إلي الحوار وقام بوضع أجندة بل الأهم قدم ورقة أو وثيقة, لم تأخذ هي الأخري حقها المناسب من المناقشة المستفيضة لا في أروقة الحزب الوطني أو في غيره, وهي ورقة حقوق المواطنة والديمقراطية, والتي تعتبر من الأوراق المهمة التي تبلورها المجتمعات السياسية الحية, لتجعل منها وثائق مكملة للدستور, أو خطوات تعجل بإصلاح دستوري شامل.
إننا نفهم أن التطور السياسي لا يأتي برغبة جماعة سياسية أو حزب ــ قد يكون متقدما علي غيره أو يسبقه في الطموح والرغبة في التقدم للأمام ــ لكن يأتي برؤية تتشارك فيها كل القوي أو الفاعليات السياسية المختلفة, والتي تشكل بتضافرها وحركتها اتجاهات المجموع السياسي, فهذه القوي المتحدة هي التي تفرض تطورا سياسيا أو تعجل بإصلاح دستوري منشود, وعندما طرح الحوار الوطني الشامل, وتقدم الحزب الوطني خطوة نحو الإصلاح بأسلوب عمله الداخلي خلال العام الماضي, ثم بأوراقه وأبحاثه السياسية في مؤتمره العام, تصورت أن الحيوية السياسية والتطور السياسي في مصر, قد خطا درجة نحو النضج الذي يؤهله لإدارة حوار صحي ناجح بين أفراده وجماعاته, قد يفرز في نهايته تطورا ملحوظا يدفع نحو مزيد من الديمقراطية, أو تغيير في بنية الحياة السياسية, لكن استقبال النخبة والأحزاب للحوار, لم ينعشا هذه الرؤية داخليا, وأدركت أن حيوية الحزب الحاكم أو الجماعة التي تحركه الآن لا تجد الصدي والتجاوب المجتمعي اللازم لإتمام عملية سياسية ناجحة ومتطورة, قد تؤتي ثمارها السريعة علي ما نتوقعه من تغيير أو تطور في أوضاعنا السياسية, يكون له تأثير مدو في محيطنا العام.
أقول ذلك وأنا أدرك, أن التطور الديمقراطي المصري السياسي هو الأفضل إقليميا حتي الآن, وعلاماته الصحية بارزة في أوسع حرية رأي وإعلام, تتمتع بها جماعة سياسية علي الإطلاق, بل إن المساحات الواسعة للحرية التي تمر بها مصر الآن, قد تجعل البعض يتصور أن التماسك المصري يمر بأزمة, لكنها حرية صحية واسعة, جعلت المصريين أحرارا في بلدهم, ولايدفع مثقف أو صاحب رأي ثمنا لرأيه مهما بلغ شططه أو جنوحه علي الإطلاق بل يحتفي به المجتمع, مع صحة ما يقال أو حتي عكس ذلك!!
وهي ظاهرة سياسية صحية, يدركها كل من يقيسون درجات تقدم أي مجتمع نحو ديمقراطية متكاملة, تكون الحرية الواسعة, هي نواتها الصلبة, نحو التقدم والنمو, ثم يحدث الحوار الواسع والقوي بشكل منظم بعيدا عن العشوائية أو الفوضي, وتحدث خلاله مساحات الاتفاق والاختلاف, وصولا إلي التنظيم الكافي والفعال, الذي يرتب أوضاعا جديدة, تؤدي إلي ظهور سياسات إصلاحية, وبروز قيادات جديدة, تقود المجتمع وتظهر حيويته وقوة معدنه, وتؤهله لمرحلة جديدة, بدون ردة أو فوضي, أو مصالح ضيقة, أو تعرقل سيادة شاملة للقانون, علي الكبير قبل الصغير.
وحتي أدلل عي ما أقول يكفي أن أحدد عدة ظواهر, نظر إليها الفكر القديم علي أنها قلاقل, وأدرك الفكر الجديد معناها ومغزاها وأنها إصلاحات في التقاضي وكشف عورات الفساد, أدت إلي طرح قيم وأفكار جديدة, غيرت في أوضاع حياتنا وصححت الكثير ودفعت إلي سقوط قوي اقتصادية, وتقديمها للمحاكمات بلا تمييز, وحرية في النقد ووصلت إلي اتهامات للحكومة, ورؤي مختلفة لشكل الحياة السياسية ودعوات بالتغيير الشامل وتغيير الدستور, حتي أنه لم يصبح أحد بعيدا عن التساؤل والمحاكمة, إلي أن وصلنا إلي حد أن أديبا وروائيا مصريا حصل علي جائزة كبيرة للرواية, تقدم من أعلي منبر إعلامي, وفي حضور الجميع, أقدم علي نقد الحكومة بل الدولة المصرية رسميا فاحتفت به الجماعة الثقافية والسياسية في مصر, وأبرزت شجاعته في النقد السياسي. بلغت قوة الجماعة السياسية ـ إذن ـ في نقد الحكومة إلي درجة أن الحكومة أصبحت تشكو من أن النقد قد شل قدرتها علي تفعيل عدد من السياسات الإصلاحية, وظهرت الحكومة عاجزة أمام قوة المجتمع السياسية وحيويته. نظرا لأن إصلاحات الحكومة الجزئية أصبحت تضعف من قدرتها علي المكاشفة الشاملة بل المصارحة لقوي المجتمع, حتي تتحمل كلها مسئولياتها للإصلاح والتغيير في مصر.
لعلنا نقف بكثير من التفاؤل أمام النقد الحاد الذي اتهم حرس رئيس مجلس الشعب بالإساءة إلي الشارع المصري, واستطاع مواطن مصري بسيط أن يسلط الضوء علي المواكب الاستفزازية لكبار المسئولين في الشارع المصري, وهو ما أدي إلي تصحيح الكثير من الأخطاء, وقد سمعت بأذني مسئولا كبيرا, يغير من شكل حرسه والسلطات الواسعة التي تمنح لهذه المواكب, وأصبح كل مسئول يراقب مساعديه ويراعي شكله أمام المجتمع إذا كان يبحث لنفسه عن مستقبل سياسي.
لذلك, فإن الدعوة للحوار يجب ألا تقف عند حد, وأن تفتح أمامها كل الأبواب, وألا تقتصر علي عدد محدود من القيادات السياسية في كل حزب, فهي خطوة نحو أن تجد كل الآراء الناضجة سبيلها إلي الظهور والتأثير, وأن نعترف بأهمية الاتفاق علي الثوابت الوطنية رغم الخلافات الفكرية.
وأن نقف جميعا بقوة ضد كل عناصر الفوضي أو الانهيار أو السلبية, وأن نحد من تأثيرات الفعاليات أو الحركات المحدودة التي لا تري لنفسها دورا إلا من خلال هدم كل الأعمال, لأنها احترفت أن تبرر وجودها أو صعودها بالهدم وليس بالبناء وأن نقف بقوة ضد أي حركات سياسية ليس لها هدف إلا قيام الحاضر بمحاكمة الماضي فيضيع المستقبل.
الموقف الراهن يستدعي ظهور سياسيين عقلاء ورجال حكم ومفكرين وأهل خبرة واختصاص يطرحون باستمرار بدائل منطقية وإصلاحية, ويقدمون النماذج الصالحة في أشخاصهم, فالحاكم أو المسئول هو خادم للشعب وليس متعاليا عليه, ويجب أن يكون قريبا من الجميع ومتواضعا ونصل إليه بسهولة ويسمعنا بهدوء, وبدون تعال أو حراسة مبالغ فيها, يجب أن نعلي من مكانة الساسة المثقفين والمستنيرين والبسطاء والبعيدين عن الفساد, وأن نكشف من كانوا نقيضهم ونجعلهم في موقف ضعيف أمام أنفسهم وأمام الناس لنتخلص من آثارهم السلبية فتتقدم النماذج الجديدة للأمام.
كما يجب أن نتخلص من الإحباط واليأس وأن ندرك أن التغيير عملية صعبة, لكنها ممكنة ونحن قادرون عليها.