أوضاع الفلاحين.. والأراضي الزراعية

فجر قرار إلغاء الأمر العسكري الخاص بالأراضي الزراعية قضية مسكوتا عنها وكامنة في الضمير الوطني, وكأنها غائبة, في حين أنها من القضايا الملحة والتي تشكل نقطة جوهرية للوطن إذا أراد أن يتقدم, لأنها تشكل أغلي ثروات المصريين علي الإطلاق, أعني قضية حماية الأرض الزراعية, وحتي نكون أكثر تحديدا فهي الأرض الطينية التي تكونت في دلتا النيل, لأن الأراضي الزراعية مع التطور أصبحت كثيرة منها الصحراوية التي تزرع الآن, ولكن أراضي الدلتا تكونت عبر سنوات طويلة من طمي النيل الغالي, والذي فقدناه منذ الستينيات مع الآثار السلبية الحادة للسد العالي رغم إيجابياته الفائقة.
وإلغاء الأمر العسكري المعروف برقم1 لسنة96, لا يعني ترك عمليات الاعتداء علي الأراضي الزراعية مفتوحة, كما يحدث الآن, إذ فهم الكثيرون أنه إشارة للقري وللفلاحين للتوسع والبناء بلا قانون يحد أو يمنع, لأن الناس أمام ضعف القانون وعدم قدرة أجهزة الإدارة علي تنفيذه حماية للأراضي, لجأوا إلي الاستسهال فصدر الأمر العسكري واستخدام قانون الطواريء أصبح مريحا لإدارة محلية عاجزة وغير مبتكرة وروتينية, وتؤدي وظائفها بشكل يسيء إلي أي إدارة علي الإطلاق, وأصبحت عبئا علي المجتمع المحلي, وجاء قرار إلغاء الأمر العسكري لا ليصحح الأوضاع فقط, ولكن لكي يكشف الإدارة المحلية, ويعري أوضاعا اقتصادية خطيرة وغائبة, ولا يسلط عليها الضوء والتفكير الكافي.
وما أعنيه هو أن الحماية لأراضي الدلتا لن تكون بالقانون ولكن يجب أن يحميها الفلاح أو المنتج الزراعي نفسه, الذي يجب أن يدرك أنه يصعب الآن الحصول علي أرض طينية جديدة للزراعة, مثل أراضي الدلتا, وإذا كان لنا أن نستصلح أراضي صحراوية فإنها لا يمكن أن تكون بديلا للدلتا, فهذه الأرض هي التي تنتج المحاصيل الرئيسية وجودتها وكفاءتها ليس لهما بديل علي الإطلاق, وإذا كانت الظروف الاقتصادية الراهنة, قد جعلت الأراضي الطينية لا تدر علي المنتجين العائد الكافي, فإن الخلل في هذه الحالة ليس في الأرض, ولكن في النظام الاقتصادي الزراعي الراهن غير المتطور في الريف المصري, فهو لا يقتل الأرض وحدها, ولكن يقتل الفلاح كذلك ويجبره علي الهروب, وترك الأرض, لكي يبحث عن وظيفة ثانوية وغير منتجة في المدن أو يعيش علي هامش الحياة في القرية, فالفلاح لا يحقق عائدا يتناسب مع طاقته أو مع تطلعاته لحياة كريمة, وأصبحت الأرض الزراعية لا تموت فقط بالاعتداء أو الضياع, ولكن بخوف الفلاح المنتج علي حياته وأسرته في مجتمع زراعي لم يعد صحيا أو منتجا بما يكفي.
وهذه قضية كبري يجب أن تشغل الاقتصاديين في مصر,وذلك بوضع خطط وأساليب ومراكز أبحاث ورؤي مبتكرة, وحلول تقدم للفلاحين, وإذا كان لنا أن نقترح شيئا في هذا السياق, فإننا نعود إلي رؤية سابقة وهي ضرورة تغيير النظام الراهن لتقسيم المحافظات المصرية, وأن يكون لكل محافظة ظهير صحراوي, مناسب يستوعب التطور والنمو في السكان, وإذا كانت مصر قد قدمت نموذجا للخروج من الحيز الذي نعيش فيه ببناء مدن جديدة( وصلت الآن إلي16 مدينة) رغم عدم النجاح الكامل فإنها خطوة علي الطريق, والمطلوب الآن امتدادها لتشمل الريف المصري, لتكون لكل قرية مصرية في الدلتا قرية بنفس الاسم لها ولأبنائها في المناطق الصحراوية, علي أن تخصص الحكومة شركات ومؤسسات تمويلية لمساعدة أبناء الريف علي الهجرة إلي امتدادات قراهم القديمة إلي قري جديدة في الصحراء, وتعطي حوافز مادية كبيرة للقري التي تسير في نفس الاتجاه, وأن تشجع المبادرات الفردية, والمساهمات الجماهيرية للسير في هذه الأسلوب التنموي, فتكلفة بناء قرية جديدة في الأراضي الصحراوية غير مكلف مثل بناء مدينة جديدة.
أما الأوضاع في القري القديمة( أكثر من4 آلاف قرية مصرية الآن) فهي في حاجة إلي حركة نهوض غير عادية, لا تقدر عليها الحكومة وحدها ولكن يقدر عليها المجتمع المصري بأكمله, بأن تتجه جهود المصريين لتقديم نماذج جديدة مبتكرة للبناء والتوسع العمراني, يعيد التخطيط, بحيث يستوعب النمو السكاني, دون إهدار الأراضي الزراعية, حتي لا نأكل ثرواتنا, ثم نبكي بعد ذلك ليس علي اللبن المسكوب ولكن علي ذبح الدجاجة التي تبيض لنا ذهبا, فأخطأنا حين تصورنا أن فقرنا ناتج عن قلة البيض, فذبحنا الدجاج, بدلا من زيادته. كما أننا في حاجة إلي دراسة أساليب جديدة للزراعة في الدلتا, تؤدي إلي تكثيف الإنتاج وزيادته, فالشكل الراهن للزراعة لا يؤدي إلي زيادة الإنتاج, نحن في حاجة إلي قيام شركات جديدة زراعية, يدخل فيها الفلاحون أصحاب الأرض كمساهمين وتتحول قرانا إلي شركات منتجة, زراعة حديثة للتصدير ذات عائد كبير, فمصر باتجاهاتها الاقتصادية القادمة خاصة بعد اتفاقها مع الاتحاد الأوروبي, من الممكن أن تكون حصانا تصديريا في قطاع الزراعة, يدر عائدا ينقل المنتجين الزراعيين إلي أوضاع اقتصادية أكثر تطورا, ولكن كل ذلك يحتاج إلي ظهور مؤسسات زراعية متطورة, داخل الجامعات وفي القطاع الخاص, والجمعيات الأهلية والشركات المختلفة القادرة علي جذب تكنولوجيات متطورة للزراعة والتعبئة والتغليف كما يحتاج إلي قيادات واعية وحديثة للتسويق, حتي يتم تحديث قطاع الزراعة في مصر ونقله إلي وضعية جديدة.
ما أقصده, أن المستقبل لقطاع الزراعة وحماية الأراضي القديمة, لن يكون فقط بالإنذارات أو المحاكم أو القرارات الفورية ولكن بأن نجعل الزراعة جاذبة للاستثمار ومربحة للمنتجين, إنه تغيير وتطور كبير, ولكن من يقدر عليه؟.
أما الوضع الحالي فيكشف عن عجز المؤسسات أو الوزارات الراهنة, فهي إما مؤسسات تقليدية وفاشلة وإما أن المشاكل أكبر منها, مما أدي إلي وجود خطر كبير علي الأراضي الزراعية, وعلي أوضاع الفلاحين, وذلك بتدني دخولهم وخوفهم من المستقبل, الأمر الذي يستدعي من كل المؤسسات تفكيرا مختلفا, لأن القضية ليس لفئة هي أكثر فئات المجتمع المصري عطاء ولكن لمستقبل الأمة كلها, فحماية الدلتا والأراضي الطينية وعودتها جاذبة للاستثمار والمستثمرين وظهور شركات جديدة في هذا المجال سيغير صورة الزراعة وستحقق أرباحا كبيرة للفلاحين مع إعادة تطوير القرية وجعلها بمثابة مصانع زراعية, وأن تكون لكل قرية في مصر ميزة وشكل إنتاجي مختلف بل يكون لكل قرية في مصر نكهة خاصة وطريقة مبتكرة في البناء والتطور, ولكن هل نمتلك المؤسسات التي تقودنا في هذا الاتجاه؟