حول تقرير التنمية الإنسانية العربي الثاني.. الخطوة الأولي التي ننتظرها

إصلاح الداخل, والنقد الذاتي الحقيقي, والفعال هو الأهم الآن للجميع, بدلا من لطم الخدود, أو الشعور باليأس, والخوف من المستقبل, ومن هذا المنظور يجب أن نوجه تحية إلي مجموعة العلماء العرب الأفاضل, الذين أصدروا تقريرهم الثاني للتنمية الإنسانية, تحت رعاية برنامج الأمم المتحدة للتنمية, فقد رصدوا فيه البون الشاسع بيننا, كعرب, وبين العالم الخارجي, وقدموا توصياتهم الدقيقة لبناء مجتمع المعرفة وتأسيس نموذج معرفي عربي أصيل, ومنفتح في الوقت نفسه, وذلك بالعودة إلي صحيح الدين, وكل عام وأنتم بخير بمناسبة شهر رمضان الكريم.
إن هذا التقرير يطالبنا بالتحرر من التوظيف المغرض للدين, وتحفيز الاجتهاد وتكريمه, بالعودة إلي الرؤية الإنسانية الحضارية والأخلاقية لمقاصد الدين الصحيحة, علي أن تستعيد المؤسسات الدينية استقلالها بعيدا عن الحكومات وعن التوظيف السياسي للدين لخدمة أغراض محدودة, وضيقة, سرعان ما تضر الجميع, وتصيب رجال الدين والمجتمع في مقتل, وأمامنا جميعا كارثة11 سبتمبر2001, وتأثيرها القاتل علي مجمل الأوضاع الدينية في كل البلدان العربية والإسلامية, ولا ننسي جميعا أن طريقة إنشاء تنظيم القاعدة والتنظيمات الدينية الشبيهة به استغلت أزمة سياسية في أفغانستان عقب غزو السوفيت هناك, لكي تربي هذا التنظيم الديني ومستفيدة من تشجيع دولي وأمريكي, ثم سرعان ما حدث التحول الكبير, وأصبح هذا التنظيم خطرا علي الجميع, فكان أول المتضررين منه هو الدين الإسلامي الحنيف نفسه.
ولكننا بهذه المناسبة يجب أن نشير أيضا إلي الجهل العميق في غالب الأحيان بالدين الإسلامي, والافتراء الصريح عليه, من قبل البعض, والذي استغله الآخرون, في حين أن المجتمع الدولي وأطرافه المختلفة عالميا وإقليميا, استغلت الأوضاع السيئة, وشاركت في تغذية هذا التنظيم الخطر, الذي يحاربه الجميع الآن, في الوقت الذي كان يجب أن تنحصر فيه هذه الحرب في نطاقها الضيق, وهي محاربة المتطرفين فقط, وألا تنزلق أبعد من هذا, كما يدفع إليها متطرفون آخرون حتي تصبح خطرا يهدد الجميع, أو طريقا لفتح باب أو أبواب أكبر للتطرف وللصراع, وهو ما يحدث الآن, فالمتطرفون والمحافظون الذين يحكمون في أمريكا وإسرائيل يختلقون ظروفا ووسائل للحروب, ويشعلون الدنيا, ويصبون الزيت علي النيران المشتعلة, ولا يجففون منابع التطرف والإرهاب باستئصال الظلم والخوف من النفوس, ولكنهم يؤججون النيران المشتعلة, وكأنهم حصلوا علي فرصتهم الذهبية أو مبرراتهم للحروب المستمرة.
لقد ركز التقرير في جانب مهم علي أنه يجب ألا تتحول الحرب علي الإرهاب لتكون طريقا لضرب الحريات المدنية, التي تطال العرب والمسلمين الأمريكيين, أو الأوروبيين, أو حتي طريقا لسن قوانين ضد الحريات في العالمين العربي والإسلامي.
في الوقت نفسه يطالب التقرير العرب بألا يقعوا فريسة لجعل قضية فلسطين ذريعة لإبطاء حركة الإصلاحات العربية, سواء الاقتصادية أم السياسية أم الاجتماعية, ومع الاعتراف بأنها قضية مؤثرة بالفعل, لكنها, بالقطع, ليست مسئولة وحدها عن غياب المهندسين والعلماء العرب عن مواكبة التحديث في التعليم.
فالعالم العربي, الذي يمثل5% من سكان العالم, لا ينتج من المعرفة أو الكتب, إلا القليل, حتي أصبحت لغته العربية في خطر, فالعرب لا يؤلفون ولا يترجمون ما يتناسب مع مكانتهم أو عددهم, فهم ينتجون1 ر1 في المائة من الكتب العالمية, وهنا لن نتكلم عن إسرائيل, التي صارت تترجم كل الكتب العالمية إلي لغتها العبرية المحدودة وكتابها, يؤلفون أكثر من ذلك, بتلك اللغة الجديدة في العالم, بل إن تركيا, وهي ربع مواطني العرب, كتابها يؤلفون ويترجمون بلغتهم أكثر منا بمعدلات كبيرة, أما تعليمنا فقد أصبح في خطر, وتدل مؤشراته المستقبلية علي الأسف, ففي مجال نشر التعليم والثقافة ووسائل الإعلام مثلا, هناك انخفاض في الجودة في معظم الأقطار العربية, ومازالت الأمية متفشية, بمعناها القديم ــ القراءة والكتابة ــ في حين أن العالم الآن يتحدث عن الأمية التكنولوجية.
أما بالنسبة للأوضاع الاقتصادية, فإن هناك اتساعا في الهوة بين البلدان العربية والدول الآسيوية, خاصة في نصيب دخل الفرد من الناتج المحلي, علي الرغم من تقارب تلك النسب, في عقدي الستينيات والسبعينيات, ففي حين بلغ دخل الفرد العربي7% عام2001 وصل في بلدان شرق آسيا إلي52%, فالحكومات العربية لم تفشل في تنمية التبادل التجاري البيني بين شعوبها فقط, ولكنها فشلت في التبادل التجاري مع الدول المتقدمة, وكذلك في اجتذاب الاستثمارات الجديدة, وتركز الاقتصاد العربي في عدد من المشروعات والخدمات وارتبط إلي حد كبير بالبترول واستخدم خبرات أجنبية ليحقق عائدا سريعا إذ أن مجمل الناتج العربي هو604 بلايين دولار, بما يساوي اقتصاد دولة أوروبية متوسطة كأسبانيا, كما أن الناتج القومي للفرد عربيا أقل من نصف الفرد في دولتين في العالم الثالث, هما ــ كوريا الجنوبية والأرجنتين ـــ ولعل أبرز ما كشف عنه تقرير التنمية هو تقلص الطبقة الوسطي تحت وطأة الخوف والفقر, وعدم توزيع السلطة والثروة بشكل عادل, وهو ما أدي إلي اتساع الفساد وتقليص العدالة الاجتماعية, وكان من نتيجة ذلك هروب الكفاءات, والتسلط الإداري المجحف علي مجمل القرارات في المجتمعات العربية.
إن تقرير التنمية الإنسانية للعرب في عام2003, بأرقامه الخطيرة, يدق ناقوس الخطر, فالعرب لا يواجهون أزمة سياسية حادة في فلسطين والعراق فقط, ولكنهم يواجهون أزمة تنمية وتطوير اقتصادي وإنساني شامل للإنسان والمادة في كل بلدانهم كما أن هشاشة مؤسساتهم الداخلية تكشف عن ضعف رهيب, ومع ذلك, فإن نخبهم وقياداتهم, تبدو لاهية, وغير مدركة لأبعاد المخاطر التي تواجهنا.
لكننا نتطلع إلي أن يكون نصيب تقرير الأمم المتحدة الثاني من الاهتمام والتركيز أفضل من الأول, وألا يقع فريسة في أيدي الناقدين أو المبررين, لأن كلا الفريقين, لن يعدم وسيلة لتجميل أو لتحطيم الصورة التي لا يراها.
في كل الأحوال في حاجة إلي العمل الجاد للخروج من الموقف العربي الراهن, خاصة في عالم الإنتاج والتنمية, والذي, لا شك فيه, أنه في موقع متدن, بل مخز, فالإنتاج والتنمية الإنسانية وغيرهما في حاجة إلي قيام مؤسسات, ووجود روح جديدة للعمل, ومناخ صحي, وكلها عمليات صعبة وتحتاج إلي تعاون دولي, حتي نري الخطوة الأولي, ولعل التقرير وروح النقد الراهنة, هما تلك الخطوة المنتظرة.