مقالات الأهرام اليومى

اللا مركزية‏..‏ روح مصرية مختلفة

قد يختلف معي كثيرون حول المركزية‏,‏ لكنها كانت العنصر الحاسم في السياسة المصرية لقرون طويلة‏,‏ ولذلك صارت مقدسة في ضميرنا الوطني‏,‏ فهي التي نظمت الري بدءا من منابع نهر النيل‏,‏ حتي مصبه‏.‏

بسبب تلك المركزية أصبحنا نملك أفضل مدرسة ري ـ ربما في العالم ـ والمصريون كانوا قد بنوا سدودا وقناطر وترعا ومصارف من قبل‏,‏ منذ بداية نهضتهم في دولة محمد علي‏,‏ ولم يبنوا سدا عاليا واحدا في العصر الجمهوري فقط‏,‏ فمنظومة المؤسسة السابقة عليه هي التي أوصلتنا إلي أفضل نموذج لاستثمار مياه النيل‏,‏ وهو نموذج مازال مستمرا إلي الآن‏,‏ يعمل باقتدار‏,‏ فكانت المركزية‏,‏ التي تسلطت علينا‏,‏ وراء هذا النجاح‏,‏ وحين نصفها بالتسلط لا نعيب هذه المركزية‏,‏ فقد حفظت مصر‏,‏ وتماسكها عبر سنوات طويلة‏,‏ ولكننا الآن في دنيا أخري‏,‏ تغير فيها كل ما تعارفنا عليه‏,‏ فصارت المركزية عبئا علينا‏,‏ وعيبا خطيرا في سياساتنا‏,‏ فهي تقف وراء تكدس القاهرة بمرافقها‏,‏ ووراء دولة الموظفين الخطيرة التي تحولت إلي بيروقراطية حاكمة لا مثيل لها‏,‏ لا يقدر عليها حتي الوزراء والمحافظون‏,‏ وتحسب حسابهم المؤسسة السياسية‏,‏ فهي تدير البلاد‏,‏ وتتحكم في القرارات‏,‏ فإن أرادت أن تنظر إليها باعتبارها قرارات قانونية‏,‏ كان لها ذلك‏,‏ وإذا رفضتها دخلت هذه القوانين في متاهة وسراديب الأرشيف‏,‏ لقد جذبت البيروقراطية نحو‏5,5‏ مليون موظف‏,‏ وأصبحت دولة عتيدة لا ي
مكن هزيمتها‏,‏ فالجامعات ومراكز الأبحاث والدولة بكل باحثيها وعقولها جميعا تفكر وتخطط‏,‏ ثم يذهب حصاد هذا التفكير من أوراق ودراسات لكي تنفذها دولة الموظفين هذه‏,‏ وهنا مكمن الخطر‏,‏ فهذه الدولة لها معاييرها وقوانينها‏,‏ التي تختلف كثيرا عما هو موجود في القرارات الكبري أو الصغري‏,‏ التي تصدرها الدولة السياسية أو الحكومة المنفذة لها‏,‏ ولذلك فنحن نعرف بدقة أن دولة البيروقراطية هي التي أخرت الإصلاح الاقتصادي‏,‏ وسوف تتحكم في الإصلاح السياسي‏,‏ وستخرجه في النهاية بأسلوبها هي الذي يختلف كثيرا عما تم التخطيط له‏.‏

إن دولة الموظفين هذه لا يحضر ممثلوها المؤتمرات أو الندوات‏,‏ فهذا الأمر لا يشغلهم قط‏,‏ أما التوصيات التي تصدر عن هذه أو تلك فتخص أصحابها فقط‏,‏ فهم يرون أن دولتهم هي الأهم‏,‏ ويفرقون تماما بين ما يقال وما ينفذ‏,‏ وبما أنهم لا يتدخلون فيما يقال‏,‏ فإنهم يتركون المساحة كاملة للمسئولين‏,‏ فهم يعتقدون في أنفسهم أنهم مسئولون فقط عن التنفيذ‏,‏ وبالرغم من ذلك فهم لا يتحملون أية مسئولية‏,‏ ولا يدفعون ثمن أخطائهم‏,‏ بل يدفعها المسئول دائما‏.‏
مازلت أتذكر وزيرا‏,‏ كان مسئولا ومفكرا في الاقتصاد لحظة توليه منصبه‏,‏ وكنت قد نظرت في عينيه‏,‏ وقلت له‏:‏ جاءتك الفرصة‏,‏ فكل ما فكرت فيه وكتبته بالأمس‏,‏ أصبح ممكن التنفيذ‏,‏ لكن الأيام مرت دون أن يفعل شيئا‏,‏ فقد وجد نفسه منذ اليوم الأول‏,‏ يضع عقله في درج المكتب‏,‏ ولا ينفذ ولا يسمع إلا ما يمليه عليه كبير البيروقراطيين في وزارته المهمة‏,‏ وظل هكذا حتي اليوم الأخير في منصبه‏,‏ وعندما أصبح خارجه‏,‏ خرج عقله من درج المكتب‏,‏ وعاد يقول ما كان يقوله من قبل‏,‏ منذ ذلك اليوم عرفت كيف يتسلق البيروقراطيون ويحكمون من وراء ستار‏,‏ ولذلك‏,‏ أجد نفسي دائما أتحفظ وأتريث‏,‏ حول كل ما يقال لأنني أعرف مكانه من التنفيذ‏.‏

والعاصم من دولة الموظفين هذه هو فكرة اللامركزية التي أصبحت تتردد الآن بقوة لدي النخبة السياسية المصرية‏,‏ وقد ظهرت في مؤتمرين مهمين شهدتهما مصر أخيرا‏:‏ الأول‏,‏ مؤتمر الحزب الوطني الذي شدد عليها‏,‏ وظهرت في كثير من توصياته‏,‏ خاصة في مشروع تخطيط المدن والقري المصرية بأسلوب جديد للحفاظ علي الأراضي الزراعية‏,‏ وشبكة الطرق المهمة التي تربط الجمهورية ببعضها البعض‏.‏ أما الثاني فقد نظمته محافظة الفيوم بدعوة من محافظها العالم الزراعي د‏.‏ سعد نصار‏,‏ لإعلان حصاد مشروع مهم نفذ بالاشتراك مع المنظمات الدولية‏,‏ وفي مقدمتها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة‏,‏ هو تقديم وصف جديد لمصر‏,‏ وهذه المرة بالأرقام الدقيقة عن السكان في سبع محافظات هي‏:(‏ القليوبية والفيوم وأسيوط والشرقية وكفر الشيخ والإسكندرية والمنوفية‏),‏ وحضر محافظوها جميعا‏,‏ ومعهم وزير الحكم والتنمية المحلية اللواء مصطفي عبدالقادر‏,‏ ووزير التخطيط د‏.‏ عثمان محمد عثمان‏,‏ واستمعت فيه إلي عرض دقيق لعدد السكان‏,‏ وأماكن تكدسهم ومستويات معيشتهم من د‏.‏ إبراهيم محرم‏,‏ رئيس جهاز القرية‏,‏ ولأول مرة في مصر‏,‏ نعرف حركة السكان‏,‏ وأفضل المحافظات وأضعفها في التنمية البشرية‏,‏ ليس في المدن فقط‏,‏ إنما في القري أيضا‏,‏ بعد أن أصبحت القرية هي النواة الصلبة الحاكمة للوطن‏,‏ وليس المدينة‏,‏ ولو أننا كنا قد ركزنا اهتمامنا في الماضي علي القري المصرية‏,‏ لكنا جعلنا ريفنا أفضل ريف في العالم‏,‏ لكننا تركناه لبناء عشوائي ونمو غير مخطط جري بدون دراسة أو تخطيط للقرية ككل‏,‏ ولأنه ليس لنا أسلوب محدد أو مجموعة أساليب للبناء في الريف‏,‏ أو تخطيط الشوارع فيه‏,‏ أصبح الريف يضج بالزحام والعشوائية والفشل في التخطيط‏,‏ وحانت الآن لحظة تغيير الخريطة في مصر لإنقاذ هذا الريف‏,‏ ومنه قد ننقذ المدينة‏,‏ وأعتقد أن هذا أصبح في متناول اليد‏,‏ فلأول مرة تهتم الحكومة المركزية‏,‏ في إطار الخطة العاجلة التي تنفذها‏,‏ بإعطاء ميزانية محددة لهذا المشروع‏.‏

إن تقارير التنمية البشرية للمحافظات بمراكزها وقراهاخطوة مهمة وشجاعة لاهتمامها الصحيح بالتنمية في القرية‏,‏ باعتبارها البنية الإنتاجية الأولي‏,‏ غير أن المطلوب الآن‏,‏ هو إعادة تخطيط القرية‏,‏ وبناء إدارة متميزة فيها‏,‏ وظهور مراكز أبحاث للمباني في القري‏,‏ حتي نقدم نموذجا بناء يلبي احتياجات أهل الريف‏,‏ وفي نفس الوقت يجعل التوسع الرأسي للقرية‏,‏ وليس الأفقي الذي يأكل الأراضي الزراعية‏,‏ ممكنا‏.‏
لكن اللامركزية تبحث عن مركز دراسات أو أبحاث لإعادة تخطيط الجمهورية فيكون لدينا بدلا من‏26‏ محافظة أكثر من‏50‏ محافظة حتي نستطيع الخروج من مساحة‏4%‏ إلي مساحة‏25%‏ من الوطن‏,‏ وفي نفس الوقت يجب تكوين ما يشبه مجلس وزراء لكل محافظة‏,‏ تنقل إليه كل صلاحيات الحكومة المركزية‏,‏ حتي نشعل التنافس الصحي بين المحافظات‏,‏ ونهزم البيروقراطية المتحكمة في الحكومة المركزية‏,‏ وتكون اللامركزية هي محور السياسة الجديدة‏,‏ علي أن تظهر مؤسسات معاصرة تقوم بالتنسيق بين الأقاليم المختلفة‏.‏

إن حلم الحكومات اللامركزية الجديدة‏,‏ في أقاليمنا ومحافظاتنا يمكن أن يتحقق إذا تم التخطيط له بفكر جديد‏,‏ فتملك الحكومة أو السلطة السياسية‏,‏ ذراعا تنفيذية مختلفة‏,‏ لا تتحكم فيها دولة الموظفين‏.‏
لكننا يجب أن ننظر للسياسات في أرض الواقع‏,‏ وليس للقرارات الجميلة أو التخطيط الرومانسي البارع‏,‏ فدولة الموظفين قادرة علي إفشال أي عمل‏,‏ وعلينا أن نتخلص منها بالسرعة الواجبة‏,‏ ولن يتحقق ذلك إلا بنقل إنتاج كل السلع والخدمات للقطاع الخاص‏,‏ ونقل الحكم والحكومة لأبناء المحافظات‏,‏ وأن تتفرغ الدولة المركزية القديمة للتخطيط والتنسيق وحماية مكانة مصر ودورها الإقليمي والعالمي‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى