الجنيه مظلوما.. والدولار ظالما

الجنيه المصري مظلوم, هذه هي حقيقة الحال, ففي الوقت الذي انتظر فيه الناس استقرارا لسعر صرفه أمام العملات الأجنبية, اكتشفوا أن العكس هو الذي حدث له.
لكن لماذا انتظروا هذا الاستقرار للجنيه؟ الإجابة ببساطة لأنه للمرة الأولي التي تزيد فيها الإيرادات لدينا علي المدفوعات, فقد وصلت إيراداتنا من صادرات السلع والخدمات وتحويلات المصريين إلي22 مليار دولار, في مقابل مدفوعات تصل إلي20 مليار دولار, أي أن المصريين عملوا وحولوا دولارات أكثر من احتياجاتهم فلماذا يدفعون ثمنا للدولار, ومادام هناك فارق في صالح الإيرادات وصل إلي ملياري دولار, فما الذي جري لسعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية؟
إن التشخيص الوحيد لهذه الأزمة لا يخرج عن كونه أنه سوء إدارة للموارد المتوافرة لدينا أولا, واهتزاز الثقة والمصداقية في الأسواق ثانيا, وفي المرحلة المقبلة علينا تجاوز هذين العاملين المؤثرين علي الأسواق والأسعار, وذلك لن يتم إلا إذا قمنا بإعادة التخطيط الجيد لإدارة هذه الموارد, وإعادة الثقة والمصداقية إلي الأسواق, وهذا لن يتأتي إلا بتغيير شامل في الخطاب الاقتصادي, ثم تهيئة مناخ قابل للاستثمار, وتغيير المناخ يتطلب الشفافية والثقة في المعلومات, ووقف استخدام المفهوم الأمني في التعامل الاقتصادي, فآليات السوق لا تحتاج إلي الأمن, وإذا وقعت جريمة, فإنه ينبغي أن نمسك بالمجرم وحده, ولا نجرم الجميع.
إذا كنا قد وضعنا أيدينا علي سبب انهيار سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية وعالجناه, فإن المناخ سيصبح مواتيا لجذب استثمارات وأموال من الخارج, بعد أن تكون الأساليب غير الاقتصادية قد توقفت, وفي هذه الحال ينبغي أن نعود إلي برنامج التخصيصية بكل قوة, مع ضرورة عودة الثقة في رجال الأعمال, لأنهم المستثمرون أولا, والمنتجون ثانيا, وأخيرا هم الذين يستوعبون قوة العمل البشرية, وقبل كل ذلك ينبغي أن تتوقف أساليب الضغط التي تشوه مناخ الاستثمار, فهذه الأساليب وقفت وراء انهيار سعر صرف الجنيه, وأشاعت الخوف في اقتصادنا.
وإذا كان السبب راجعا في هذا الانهيار إلي غياب مصداقية الجهات الحكومية, فإن هناك شعورا لدي حائزي الدولار بعدم قدرة الأجهزة المصرفية علي ضبط السوق, وهذا أمر خطير, يجب أن تدرسه لجان اقتصادية لتصل إلي الحقيقة, ويصدر عن البنك المركزي والأجهزة المصرفية بيانات فورا, حتي تهدأ السوق ويطمئن المتضررون, فالسكوت علي انهيار سعر الجنيه المصري, غير المبرر, مسألة خطيرة, يجب أن يحاسب عليها كل من تسبب فيها.
فالسعر ينخفض في وقت تشير فيه الأرقام إلي زيادة الصادرات المصرية خلال العام المالي الأخير, وبأرقام مناسبة تفوق مليار دولار, بل إن الميزان الجاري( سلعا وخدمات) حقق فائضا لأول مرة في تاريخه يقترب من ملياري دولار, مقارنة بعجز كان يتراوح ما بين2 إلي4 مليارات دولار في الأعوام السابقة, كما أن الاستثمارات الأجنبية, زادت في العام الماضي علي العام السابق عليه في حدود250 إلي300 مليون دولار, أما الاحتياطي في البنك المركزي فقد زاد إلي8,14 مليار دولار, فلماذا ينهار سعرالجنيه المصري أمام الدولار, إلا إذا كانت هناك سياسة خاطئة لإدارة سعر الصرف, منذ قرار تعويمه أو تحريره مع بداية هذاالعام( يناير الماضي) أي منذ9 أشهر فقط؟!
وفي هذه النقطة تحديدا, كان يجب علي الحكومة أن تدرس بدقة متناهية الميزان التجاري المصري, والطلب المحلي علي الاستيراد, وتحدد بوضوح البنود التي يجب أن يتم استيرادها وتفتح اعتماداتها بالتنسيق بين كل البنوك, حتي لا تجعل السوق تضارب علي الدولار لتلبية الاحتياجات التي لا يوفرها البنك, وأن تتجاوز المصارف نقطة عدم التنسيق والتنافس الحاد فيما بينها علي العملاء, الأمر الذي أدي إلي استغلال المستوردين لنقاط الخلل والضعف المصرفي, للتلاعب في الاعتمادات والفواتير, والتي يترتب عليها عدم قدرة الجهاز المصرفي علي تنفيذ القرار الخاص بإلزام المصدرين بتوريد75% من حصيلة أعمالهم بالنقد الأجنبي للبنوك لتلاعبهم بالفواتير, بسبب ضعف الكفاءة المهنية للبنوك, مع ضعف الثقة في الاقتصاد.
ونتسائل: لماذا لم تربط البنوك والحكومة بين إعطاء حوافز التصدير وتنفيذ بيع الحصيلة, لتكون حافزا لتشجيع الجميع علي التعامل مع البنوك, مع إشعارهم بقوة وقدرة البنوك علي تلبية احتياجاتهم من العملات الأجنبية, عندما يحتاجون.
إن التساؤلات كثيرة, عن قدرة الحكومة في الحد من الاستيراد, وكذلك الحد من تسرب العملات الأجنبية, من تحت أيدينا في السياحة والحج والعمرة, واستخدام فيزا كارت, وكلها استخدامات من الممكن ضبطها والحد منها, حماية للجنيه المصري خاصة في وقت الشدة والحاجة الملحة, للحد من انهياره المتلاحق وغير المبرر, والذي أدي إلي ارتفاع كبير في أسعار كل السلع المستوردة والمحلية,
كما أدي إلي انخفاض مستوي معيشة المصريين, فهناك ترابط مخيف بين أسعار كل السلع, وهو ما أدي بدوره إلي انهيار كبير في كل الدخول, وزاد من صعوبات الحياة علي الجميع في مختلف المستويات, الاقتصادية والمعيشية, فزيادة الأسعار تزامنت مع اختفاء كثير من السلع أو قلة المعروض منها, وعدنا إلي أزمات سلعية كانت قد انتهت منذ زمن بعيد, حتي سلعة القمح, ورغيف العيش, والعدس, والفول وغيرها من سلع الفقراء, التي يحتاجها كل بيت مصري, وظهرت بدلا منها أسئلة كثيرة عن الإصلاح الاقتصادي وتوقفه,
وتساءل الناس عن دور هذه الإصلاحات في الجهاز المصرفي, ودور البنك المركزي الذي يراهن علي زيادة الاحتياطي وينسي دوره في الحفاظ علي سعر الصرف, مما جعل كل المتابعين يرون أن البنك المركزي لا يري في الحفاظ علي سعر الجنيه عملا ضروريا, كما لم تكن هناك ردود فعل إيجابية لسياسة الحكومة وجهازها المصرفي بعد التغييرات الأخيرة في السياسات وتغيير قيادات البنوك, فهي لم تستطع أن تحقق أي نجاح ولو كان جزئيا في استرداد الأموال الهاربة من الخارج, أو أنها بدأت فعلا في جدولة ديون المتعثرين, حتي نقضي علي هذه الثغرة الكبيرة في جدار الجهاز المصرفي, التي هزت ثقة المستثمرين ورجال الأعمال في أخطر جهاز مصري للتنمية الاقتصادية.
صار سعر الجنيه الحالي مظلوما, والدولار ظالما.. والقياسات الحقيقية تري أن سعره يجب ألا يتجاوز5 جنيهات ونصف الجنيه للدولار, وفي لحظة إعادة المصداقية, مع تغيير الإدارة الراهنة لسعر الصرف, سوف نري أن السعر الراهن والتدهور القياسي غير المبرر, والذي لا يتناسب مع قيمة الجنيه الشرائية في أسواقنا, سيتوقف, ولكننا سنعاني كثيرا حتي يعود السعر حقيقيا, وهذا لن يتحقق إلا بعودة قوية وحاسمة لسياسة الإصلاح الاقتصادي بلا تردد وبشخصيات قوية قادرة علي كسب الثقة والمصداقية, وهذا يستلزم وقتا وعملا.