الوطن قبل الحزب

إذا أرادت مصر أن تبني نظاما سياسيا جديدا, يستند إلي الديمقراطية فإنه يجب الاعتراف أولا بأن عملية التنمية السياسية لها هدف واحد, هو إقامة بنية أساسية لهذا النظام الديمقراطي, تسمح بحرية أكبر, وقدرة علي اختيار القيادات بسلاسة وهدوء, ثم تعزيز أفضل العناصر منها, وتقديمها للحياة العامة والسياسية, وعدم تهميش قطاعات أو أفراد لسبب أو آخر.
لكننا نقدر صعوبة البناء السياسي, لأنه ليس بناء ماديا يسهل الوصول إليه مهما تكن تكلفته, كما أنه ليس سلعة مستوردة يمكن التوصل إليها, أو استنساخها, إنما العملية السياسية الديمقراطية تختلف من مجتمع إلي آخر, حتي إنها تتغير مع الزمن داخل المجتمع الواحد, فما يصلح اليوم, قد لا يصلح غدا, أو بعد أعوام, وإذا جاز لي أن أشبه العملية الديمقراطية, فإنني أقول إنها عملية مثل الإنجاب بين الأفراد, يجب أن تكون طبيعية, فالأفراد مثلا, رغم تقدم التقنيات والعلوم, لم يجدوا بديلا عن الإنجاب الطبيعي, رغم كل المحاولات المستميتة لمساعدة العاجزين عن هذه القدرة, وهكذا الشعوب الحية والقادرة, يجب أن تنجب نظامها السياسي القوي بشكل طبيعي, بما يثبت عافيتها وصحتها حتي لا تسمح لنفسها بالانزلاق إلي الفوضي والتوتر, وهي في الطريق إلي صحة نظامها السياسي وتماسكه وقوته وتجدده الدائم.
ومصر من هذه الشعوب الحية, القادرة علي إفراز نظام سياسي قوي ومتماسك, ينهي وقتا طويلا من التردد, ولكن حتي نكون منصفين لم يكن هذا الوقت عبثا, فقد حافظنا خلاله علي تماسك بلادنا ولم نسمح بالانقلابات أو سيطرة مجموعات أو أقليات أو حتي نخب مميزة, وكان ومازال هناك نظام انتخابي حقيقي, توصلنا إليه عبر الإجماع الوطني, أو ما نستطيع أن نسميه بالقاسم المشترك الذي يقبله المجتمع بكل فئاته, وقد حقق لنا هذا النظام درجة عالية من الشرعية السياسية الداخلية والتماسك القوي, لأننا كنا, ومازلنا نلجأ إلي أكثر درجات الإجماع, حماية لنا من الفوضي أو تردي الأوضاع.
أما الآن فقد حانت لحظة الانتقال إلي الإجماع النسبي, وهذا لن يتحقق دون بناء جديد لتطوير النظام السياسي في مصر, وأكثر المؤسسات قدرة علي بناء هذا النظام السياسي, وسرعة تفعيله, تنحصر في تيارين هما: أولا: الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني, أما الثاني: فالجامعات والمدارس والإعلام ومؤسساته المختلفة. فالأول, يؤمن التنظيم ويفعل العمل, ويوفر القدرة علي الحركة ذات النتائج الإيجابية لصالح الجميع, والثاني, يبني الضمير والقيم ويعمق المشاعر والانتماء والمساواة واحترام القانون والحقوق, وهذه هي قيم المجتمع الديمقراطي, التي بدونها لا يصح ولا يقوم أي بناء سياسي سليم.
أما إذا نظرنا إلي الخريطة السياسية, فإننا سوف نجد أن أكثر الأحزاب المصرية قوة واستمرارية في الحكم, هو الحزب الوطني الديمقراطي, الذي يستعد الآن لعقد مؤتمره السنوي في النصف الثاني من شهر سبتمبر الحالي, وإنصافا لهذا الحزب فإنه, وهو يمتلك الأغلبية والحكم, كان أنشط الأحزاب في العام الماضي, فقد تكونت وحداته من الوحدات المحلية إلي المؤتمر العام بالانتخاب, ثم جابت قياداته القري والمحافظات, ونظمت مؤتمرات عديدة, لكنه الآن مطالب ببناء نظام سياسي للوطن, لأن الوطن يسبق الحزب, ويعلو عليه, فالحزب في خدمة الوطن, وليس العكس, وإذا كان الحزب الوطني يملك الأغلبية, وليس له منافسون أقوياء, فإن منافسه الأقوي سيكون سمعته وقدرته علي أن يقدم لبلادنا نظاما ديمقراطيا قويا, يشار إليه, ويذكر بالاحترام في كل بلاد العالم, فالنظم الديمقراطية الحالية, أصبحت الآن أصولا متينة للمجتمعات, فهي التي تشكل الإمكانات الهائلة للقدرة السياسية, وتجذب رءوس الأموال, لأنها وحدها قادرة علي تفعيل البنية الاقتصادية, فالنظام السياسي الذي يعرف كل فرد فيه آلياته, ويشارك فيه بفاعلية, هو الذي يضمن للاقتصاد قوته ويجذب الشركات ويحمل الأموال.
والفرصة مواتية الآن للمؤتمر السنوي للحزب الوطني, لأن يثبت للشعب المصري قدرته, فيقدم لمصر نظاما انتخابيا جديدا لمجلسي الشعب والشوري, يستند إلي التطور الهائل الذي تم في مشروع الرقم القومي للمواطنين, ويسمح هذا النظام الانتخابي بأن يكون الانتخاب فيه للمؤسسة, والأهم للحكم, علي أن يكون نظاما ديمقراطية شفافا متخلصا من الضعف الذي اعتراه في السنوات الماضية, ذلك الضعف الذي كان يتبدي في اختيار نواب غير مؤهلين أو فاسدين, والذي تمثل في أزمات متكررة داخل البرلمان, عرفت بنواب القروض وأخيرا, أزمة النواب المتهربين من التجنيد, والأميين, ومزدوجي الجنسية.
إن بناء مؤسسات الحكم وسرعة وقوة اختيار القيادات المؤهلة نوعيا, من ذوي الثقة والمصداقية, سينقل مصر خطوة متقدمة في الممارسة السياسية, فقد آن الأوان أن تسقط شعارات حكمتنا طويلا, كانت قد قللت من قدراتنا علي الاختيار السليم, وجعلت بعض مؤسساتنا السياسية كهياكل فقط, لكنها أصبحت تشغل حيزا من التفكير والحركة والفراغ, ومع ذلك فهي غير مؤثرة, ولا تدفعنا إلي الأمام, ولا تأخذ بمجتمعاتنا, قدما نحو التحديث الذي يجب أن يكون عملية دائمة لا تتوقف.
من هنا فإن علي الحزب الوطني في مؤتمره السنوي, تباعات كثيرة, ليس من أجل أعضائه فقط, لكن من أجل الوطن والنظام السياسي ككل, فهو الحزب الوحيد القادر علي البناء, خاصة أن نظامنا السياسي في الوقت الراهن يمر بحالة تكوين ومخاض, وعلي الحزب الكبير, أن يدفعها إلي الأمام, ويساعدها علي النمو, فعلي سبيل المثال فإن بعض القوانين السياسية, بعضها تحتاج إلي تغيير وإعادة نظر, فقانون الأحزاب أصبح لا يلبي الاحتياجات, أما الأحزاب السياسية الأخري, فتمر بمنعطفات خطيرة, وتسيطر عليها أوضاع صعبة, تعاني الانقسامات الحزبية, مما أوصل الوضع الحزبي, عامة إلي حالة سيئة, ومادام الوضع كذلك, فإنه يجب علي الأغلبية, أن تسن قوانين جديدة, ثم تراقب تنفيذها, وتوجد مؤسسات للرقابة, حماية للحياة السياسية من الضعف والتردي.
إن علي المؤتمر السنوي للحزب الوطني أن يدرس كيف يدفع كل المواطنين إلي المشاركة في العمل العام وتطوير آلياته, عبر النقابات والجمعيات, فهذه الأخيرة تعاني الضعف نتيجة العمل بقوانين قديمة ومتخلفة, وهو أمر يجب أن يتم تغييره, حتي تكون النقابات والجمعيات ظهيرا قويا لحماية الاستقرار وتطوير النظام السياسي.
وأعتقد أن حزب الأغلبية قادر علي القيام بدوره, لأنه كان الأنشط سياسيا واجتماعيا, فهو لم ينتظر الآخرين, وبدأ واستمر في التجديد والتطوير, لأنه يؤمن بأن الوطن قبل الحزب, وتشغله مكانة مصر السياسية داخليا وخارجيا, ويدرك أن نظاما سياسيا قويا وديمقراطيا مستقرا, هو ضمان للأجيال في الحاضر والمستقبل.