أزمة اقتصادنا عند المنافذ البرية والبحرية

يجب أن نسارع في تصحيح سياستنا الاقتصادية والعودة إلي المنابع الحقيقية للإصلاح الاقتصادي, وإلا سوف يستمر انهيار سعر الجنيه المصري أمام الدولار, والذي وصل الآن إلي معدلات انخفاض قياسية, لا تتناسب مع إمكاناتنا ومواردنا.
إن الإصلاح الاقتصادي وإيجاد فرص متزايدة للاستثمار, هما عملية شاقة ودائمة, يجب ألا تتوقف. ونحن الآن في منعطف صعب وخطير يحتاج منا إلي وقفة صلبة من جميع القيادات والتيارات السياسية والاقتصادية, لمتابعة عمليات الإصلاح وإنقاذ أوضاع بلادنا في ظل غياب الثقة والمصداقية في الإدارة الاقتصادية, وصور مختلفة مثل معدلات زيادة البطالة وهروب وتعثر المستثمرين, وضعف النمو, وارتفاع الأسعار, وانهيار سعر الصرف, وكلها أشكال تعبر عن تزايد الضعف وتوقف عمليات الإصلاح.
لقد وصل الأمر إلي أن عمليات الإصلاح التي بدأت في الثمانينيات, بتطوير البنية الأساسية, وكانت قد وصلت إلي قمتها في التسعينيات, أصبحت الآن ضعيفة, وهذا ما يستدعي تدخلا سريعا, لأن الخدمات والبنية الأساسية الضخمة, التي مولناها بموارد كبيرة, إذا لم تهييء, التطور والنمو للاستثمار, فإنها تتحول هي ذاتها إلي عبء, ويضيع علي البلاد, ليس خسائر هذه الأموال فقط, إنما نخسر عائد الاستثمار منها, وكذلك الأصول التي استثمرت فيها.
وسنطرح عددا من الأفكار السريعة, التي إذا أدركنا مغزاها فستدر موارد إضافية وسريعة إلي الاقتصاد المصري, علي سبيل المثال فإن الاقتصاد الآن في حاجة إلي برنامج سريع يقوده متخصصون, وشخصيات قادرة علي إعادة الثقة في بلادنا واقتصادنا, وقادرة أيضا علي تحريك هذا الاقتصاد وجذب المستثمرين, حتي يمكن إعادة الأموال المهدرة, فالأسواق لا تصنعها الحكومات, ولكن تحركها فقط, وتبعث فيها القدرة والنمو, وعندما تكون الحكومة وإدارتها ضعيفة, ويسيطر عليها بيروقراطيون وضعاف الرؤية, فإن أول من يهرب فهو المستثمر بأمواله, وتضيع فرص النمو, ويغيب التشغيل, وقد لا نري غيابه يوميا, ولكننا نشعر به من خلال المؤشرات المتكررة والظاهرة في الأسواق, فهناك عجز وغياب عن الحركة, ثم يتم التبرير باستخدام مؤشرات خاطئة.
ولكننا إذا ما أخذنا مؤشرات حقيقية, وصورا واضحة, فإنني أتوقف هنا عند صورة حية في المنافذ المصرية, سواء أكانت برية أم بحرية أم جوية, فكل الذين يتابعون هذه المنافذ يرون فيها صورة بالغة السوء, تكشف عن غياب الرؤية في الإصلاح الاقتصادي, وتوضح حجم الموارد المهدرة, وإذا أردنا تغييرا سريعا, وبداية جديدة محددة, فإن سرعة التغيير داخل الاقتصاد المصري, يجب أن تظهر في هذه المناطق من الإدارة الاقتصادية, التي أدعو إلي أن يتولاها متخصصون ومحترفون, بمعايير عالمية, وليس هواة أو ضباطا متقاعدين ليسوا مؤهلين لطبيعة هذه الحرفة, فالأسواق بالغة التعقيد ومتغيرة باستمرار, وأصبحت فيها المنافسة حادة, وغير متوقفة أو حتي متوقعة.
في البداية يجب ألا ننكر أن منافذنا الجوية, أي مطاراتنا, قد بدأت حركة تصحيح وتغيير, نتمني أن تستمر ولا تجهض, لأهميتها لتطوير الاقتصاد المصري, لكن المنافذ البحرية, أي موانئنا في سفاجا والسويس والإسكندرية وبورسعيد, والبرية في مختلف حدودنا شمالا وجنوبا, سواء مع السودان أم مع ليبيا, فإن حجم التدهور وغياب التخطيط والإهمال وصل فيها إلي نقطة بالغة السوء, ويكفي أن مصر التي كانت في السبعينيات تستقبل في ميناء الإسكندرية وحده, أكثر من20 باخرة ركاب وعبارة بانتظام, أصبح الآن لا يستقبل أي باخرة ركاب, في حين أن العالم كله يتجه الآن إلي سياحة السيارات, وينتقل السائحون والركاب والبضائع بنسب لا تقل عن50% عبر وسائل المواصلات غير الجوية, وهو ما تخسره مصر لأن موانئها غير مؤهلة, وتديرها الآن شبه مافيا, بالإضافة إلي أنها تقرر رسوما باهظة, كما تقتصر حركة الركاب في هذه الموانيء علي بعض السفن المحدودة, التي تقدم خدمات الحج والعمرة للمصريين أو للعائدين منهم من الخارج, حتي هؤلاء فهم مضطرون لاستخدام هذه السفن بسبب إمكاناتهم المحدودة, فهم لا يخفون إهدار كرامتهم, واستنزاف أموالهم, وتعرضهم لكل أنواع البلطجة, والابتزاز في موانيء غير آدمية.
إن هؤلاء لا يقضون ساعات في هذه المنافذ فقط, بل أياما ويتحملون تباعات لا قبل لأحد بها, وأبسط وصف لما يجري لهم فيها من معاملة, هو أنها ضد حقوق الإنسان, لمواطن في بلاده, فكيف يقبلها أجنبي أو سائح يريد قضاء إجازة في بلادنا؟
إن موانئنا, ومنافذنا البحرية والبرية بلا أي نوع من الخدمات, فالقادم إلي ميناء نويبع مثلا لا ينتظر ساعات حتي يخرج بل أياما, فالإدارة العاملة في هذه الموانيء, دون المستوي, بل إنها تتفنن في معاقبة من يعبر بهذه الموانيء, وكأن القائمين عليها يريدون ألا يأتي الناس مرة أخري, ولسان حالهم يقول لماذا جئتم من هنا؟ فمن يريد أن يأتي إلي مصر ويحصل علي معاملة إنسانية, لن يجدها إلا في المطارات, في الوقت الذي تقوم فيه كل الدول العربية بتطوير منافذها الجوية والبحرية, باعتبارها من أكثر المناطق جذبا لنوع من السائحين, هم أكثر إنفاقا من غيرهم, والدليل علي ذلك هو أن إحدي الدول العربية الخليجية الصغيرة( بترولية وغنية) قامت بتطوير منفذها البري, مع السعودية, بسبعين مليون دولار, لجذب السائحين إليها من هذا المنفذ ليخدم البلدين معا.
ومصر ذلك البلد الكبير, الذي يملك الإمكانات الضخمة, وكان قد صرف كثيرا من الأموال في بناء بنية أساسية في السياحة, من مد خطوط للكهرباء, وإقامة محطات مياه نقية, وعمل شبكات طرق, وبناء فنادق, وهو في حاجة إلي جذب المزيد من السائحين, لتطوير اقتصاده, تقف موانئه ومنافذه حجر عثرة أمام هذه الأهداف!
إن الخبراء يجمعون علي أنه يمكن أن تزيد حركة التجارة والسياحة إلي مصر, إذا استخدمنا منافذنا, بمعدل لا يقل عن40%, فلماذا لا نتحرك ونوقف نزيف إهدار الموارد وضياع الفرص أمام اقتصادنا وبلادنا؟ ففي الوقت الذي يتجه فيه العالم إلي التوسع السريع في النقل البري والبحري والسكك الحديدية, وتطبيق اللوجيستيات الكبيرة, والتعامل متعدد الوسائط, نجد تجارتنا تتعثر, وموانئنا تتخلف, وتسيطر عليها بيروقراطية مخيفة, فتضيع علينا الفرصة كاملة.
وبالرغم من هذا كله فدعنا نأمل خيرا, ولكن الفرصة للإنقاذ موجودة في التغيير والتطوير, وسبيلنا الوحيد إليها, هو التطوير الجمركي في المنافذ, وتسليم الإدارة لمحترفين, وللمؤسسات الاقتصادية ذات الخبرة العالمية, وليس إلي بيروقراطية أو متقاعدين بلا خبرة عملية, أوصلونا إلي نقطة, لا سبيل إلي الخروج منها, إلا بإصلاح شامل.