سلام السودان.. ومصداقية مصر

وصلنا إلي النقطة التي يجب أن نكشف فيها بوضوح أن السلام في السودان, مهم تماما للسودانيين أولا, وللمنطقة العربية ثانيا, كما أنه ضروري وحيوي لمصر خاصة, والسلام لن يأتي علي طبق من فضة, أو لأننا راغبون فيه, فهو عملية شاقة, تحتاج إلي صبر ومداومة, علي العمل السياسي والدبلوماسي, وتكثيف الاجتماعات, والحوارات, لكن الأخطر, فيه هو أنه يبحث عن مسئولية حيوية لإدارته, واختراق الطريق إليه في السودان.
ومصر هي المرشحة الآن لتحقيق هذا الاختراق السياسي, فهي البلد الوحيد, الذي تلتقي لديه كل خيوط اللعبة السياسية السودانية, وكل السودانيين, علي اختلاف, أطيافهم السياسية, ورؤاهم المتباينة والمتباعدة, جاءت إليهم اللحظة الفاصلة ليلتقوا ويثقوا, أو لنقل, أكثر تحديدا, ليتفقوا, ونادرا ما يتفقون, علي أن مصر هي المؤهلة لإدارة عملية سياسية صعبة ومعقدة للوصول بكل الأطراف إلي بر الأمان.
فالرئيس حسني مبارك, تثق في شخصه, تحديدا, كل الأطراف السودانية, وتلتقي معه الحكومة والمعارضة الشمالية, كما أنه الرئيس الوحيد, الذي التقي جون جارانج, زعيم الجنوبيين, وكان قراره بالالتقاء, بجميع السودانيين بمن فيهم جارانج, قديما, وسابقا علي المفاوضات الشمالية الجنوبية في ماشاكوس, وهو قرار إستراتيجي وصحيح, وظهرت الآن دقته وبراعته, ومصر, كانت ولاتزال تحتضن الجنوبيين, مثلما تحتضن الشماليين بدون تمييز, فالسياسة المصرية, وتحديدا التي يعلنها ويصر عليها الرئيس مبارك, هي أنها ضد الانفصال, والمنظور المصري هنا, وحتي لا نخطيء ليس لمصالح مصرية خاصة, رغم أهميتها, ولكنه أولا وأخيرا, لمصالح سودانية قومية, ولصالح السودانيين شمالا وجنوبا, فدولة مستقلة وهشة في الجنوب, لا تملك مقومات الحياة, لن تحقق طموحات الجنوبيين وستقع فريسة للقلاقل, والسيطرة القبلية, وستنقل الحرب الأهلية الدائرة الآن بين الشمال والجنوب, لتدور رحاها بين الجنوبيين أنفسهم, المختلفين إثنيا, بل إن هذه الدولة, مرشحة لتكون فريسة تكرر الكوارث الإفريقية الضخمة, والانقلابات, والانقلابات المضادة, والتدخلات الخارجية الحادة, التي لن تكون في صالح السودانيين الجنوبيين.
كما أن الشماليين, لن تنصلح حالهم بعد الانفصال, وسيقعون فريسة رد الفعل الحاد أيضا, الذي قد يتطور في ظهور طبقة من الحكام الأصوليين, شبيهة بالقاعدة, أو طالبان في أفغانستان قبل سقوطها.
ولنتذكر, هنا بدقة, أن التقاء الخيوط السودانية في القاهرة, لم يكن وليد مصادفة, بل نتيجة مصداقية عالية, اكتسبناها من تراكم النظرة الصحيحة للأمور, خاصة عقب الحادث الخطير, الذي كاد يطيح بمستقبل العلاقات المصرية, السودانية, وأعني حادث محاولة الاعتداء الغاشم علي الرئيس مبارك في أثناء زيارته لأديس أبابا في يونيو1995, ولولا حكمة وبصيرة وضبط النفس للرئيس مبارك, الذي رفض رد الفعل العشوائي, أو حتي معاقبة الحكومة السودانية, لحدث ما لا يحمد عقباه, لكن مبارك أدرك وعرف أن وراء الحادث تخطيطا دقيقا لقوي التطرف الديني, التي استولت علي القرار والحكومة في السودان خلال تلك الفترة.
ولعل الرؤية الواضحة في السياسة المصرية, جعلت لرئيسنا, ولمصر مكانة عالية لدي جميع السودانيين, تؤهلنا الآن للمشاركة في تحقيق سلام السودان, حتي ينجو الشمال من سيطرة التطرف الديني, وينجو الجنوب أيضا من التهميش والصراعات المتعددة, ويلتئم الجميع في سودان موحد.
ولعل من حسن الطالع أيضا, أن الرؤية المصرية لمستقبل السودان, وتوحيده, تلتقي الآن مع السياسات العالمية, خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية, التي تري أن المستقبل الإقليمي سيكون أفضل في ظل سودان موحد, يتمتع كل سكانه بالحرية, وحق تقرير المصير, الذي لا يعني الجنوبيين وحدهم, بل الشماليين كذلك, وهذا الحق لا يعني الانفصال وإقامة كيانين منفصلين, ولكن لكي يصل الطرفان للوحدة بحرية وتراض ومساواة, دون تهميش أو فرض إرادة طرف علي حساب الآخر.
السودانيون بكل أطيافهم, وصلوا الآن للنضج الكافي, ليدركوا أن حروب عقدين يجب أن تتوقف, ويكفي سقوط مليوني سوداني راحوا ضحيةحروب عبثية, وتشريد ما لا يقل عن أربعة ملايين نازح خارج بلاده, إضافة إلي اقتصاد مثقل بالديون, وإهدار للثروات الطبيعية والبشرية.
أما اتفاقيات ماشاكوس, رغم أهميتها, فمن الممكن أن يصبح مصيرها كالمبادرات السابقة, مثل الإيجاد والمبادرة المصرية ـ الليبية, لأن طريق السلام شاق, ويحتاج إلي إدارة, ومصر هي القادرة بالحيوية والروح أن تصنع هذه الإدارة, ويجب أن تبدأ فورا, ونقترح أن يكون لها وزير أو هيئة مصرية قوية, مثلما أدرنا بنجاح اتفاقية الهدنة بين الفصائل الفلسطينية, وتوحيدها خلف حكومة محمود عباس, فكل الظروف مهيأة الآن لاختراق, ونجاح كبير في السودان, ربما يفوق ما يحدث في فلسطين, ويتجاوز صعوبات العراق, فنعطي النموذج, لكيفية التحرك الإقليمي, لمواجهة كوارث الحروب, وغياب السلام.
فالسلام السوداني حيوي ومصيري لمصر وللمنطقة, وستعود به مشروعات إقليمية مثل قناة جونجلي المهمة في جنوب السودان, لصيانة المياه واشاعة التنمية الزراعية بين مصر والسودان.
والآن يجب أن نستثمر نجاحاتنا السياسية السابقة, في سرعة إنجاز سلام السودان, وعودته للانتعاش والنمو السياسي والديمقراطي, والذي ستعود علينا, وعلي المنطقة بالفائدة, وسيبرز قدرة مصر وريادتها السياسية, وتمتعها بالمصداقية في محيطها العربي والإقليمي.