مقالات الأهرام اليومى

حسبي الله‏..‏ الفرحان مذبوحا

لم أقرأ ولم أسمع‏,‏ منذ اشتعال أزمة العراق وإلي الآن‏,‏ ما هو أكثر تعبيرا عنها‏,‏ إلا في كلمات كتبها الكاتب العراقي الساخر داود الفرحان‏,‏ ولا أقول إنه كتبها مذبوحا‏,‏ بل عبر عنها في دعوة‏,‏ يطالب فيها الناس بأن يزوروا العراق الآن‏.‏
بحثت في كلماته‏,‏ هل هي دعوة للبكاء علي الأطلال‏,‏ أم ساعة للعمل لإنقاذ أهله في العراق‏,‏ أم نوبة أمل ليفيق العرب‏,‏ ويخرجوا من حالة الوجوم والخوف والوجل‏,‏ منذ سقوط بغداد وإلي الآن؟‏!‏

إن دعوة الكاتب الساخرة‏,‏ التي نحتها بقلمه‏,‏ ولا أقول كتبها‏,‏ جاءت تحت عنوانه المعبر حسبي الله ونشرها في مجلة الأهرام العربي‏,‏ وقد أظهر قدرة باللغة علي التعبير والتصوير لمعاناة العراقيين‏,‏ حملتني علي أن أنقلها للجميع فقد قال‏:‏
هذه دعوة سياحية لزيارة العراق والتمتع بالحرية فيه بعد سقوط صدام حسين‏.‏ فهذا هو البلد الوحيد في العالم الذي لا توجد فيه حكومة‏.‏ ومن حق العراقيين أن يستمتعوا بأنهم يستطيعون أن يقولوا أي شئ ويفعلوا أي شئ دون خشية الأمن والمخابرات والشرطة والاستخبارات والحزب الواحد‏..‏

زوروا العراق واطلبوا من أقرب وكالة سياحية رؤية إحدي المقابر الجماعية‏.‏ زوروا العراق وشاهدوا معتقلات الأنفاق والأدوار العليا لبنايات الأجهزة الأمنية‏.‏ زوروا العراق وتجولوا في المباني الحكومية المنهوبة والمحروقة‏.‏ زوروا العراق حيث يوجد حزب لكل مواطن‏.‏
ولا تنسوا أن تزوروا معسكرات قوات الاحتلال الأمريكي والبريطاني حيث تشاهدون علي الطبيعة الدبابات والمدرعات والأسلحة التي طالما أعجبتكم في الأفلام الأمريكية‏.‏ في هذا البلد تستطيعون أن تشاهدوا الدبابات الأمريكية أمام أبواب الفنادق الكبيرة والصغيرة بينما الجنود الأمريكيون والبريطانيون‏,‏ وأحيانا من جنسيات أخري‏,‏ يتنزهون بكامل أسلحة الميدان في الشوارع والأزقة والميادين والمدارس والجامعات والمساجد والجسور والمطاعم‏.‏ سيطربكم في العراق صوت إطلاق الصواريخ والقذائف والرصاص في أي وقت ومكان‏.‏

هنا من حقكم أن تشتروا وتبيعوا الأسلحة بمختلف أنواعها من الدبابات إلي المدافع إلي الصواريخ إلي الألغام إلي البنادق والرشاشات والمسدسات‏.‏ ولن يغشكم أحد في هذه الأسلحة لأنكم تستطيعون تجربتها أمام البائع لهدم أي جدار أو قتل أي شخص‏.‏ وليست هناك أية مسئولية تخشونها أمام المحاكم لأن القانون خرج ولم يعد والشرطة في إجازة طويلة‏.‏
وإذا أردت مشاهدة جواسيس بحق وحقيقي فلا تتردد في زيارة العراق‏.‏ فكل مخابرات الدنيا موجودة في بلاد ما بين النهرين‏,‏ وهي تتجسس علي بعضها البعض وعلي العراقيين وتزرع شبكاتها بكل حرية وتنظم الاجتماعات مع عملائها تحت شمس النهار وفي أي مطعم كباب أو سمك‏,‏ فهذا بلد مفتوح أمام العالم بعد أن كان سجنا للأحرار‏.‏ حتي البنوك صارت مفتوحة أمام اللصوص بعد دخول قوات التحرير والاحتلال ليغرفوا منها مايشاءون‏.‏ فأموال الشعب للشعب‏,‏ وليس هناك فرق بين عصابات صدام حسين وعصابات سجن أبي غريب التي أطلق صدام سراحها عشية الحرب لتجهز علي ما تبقي من ثروات البلاد‏.‏

والعراق هو البلد الفريد الذي تستطيع فيه إصدار صحيفة أو مجلة بدون ترخيص من أحد أو إشعار أية سلطة‏,‏ ولن يسألك أحد عن جنسيتك أو هويتك أو سوابقك إذا كنت من أصحاب السوابق‏.‏ ويمكنك أن تشتم وتنتقد من تشاء من الأحياء والأموات‏..‏ ولكن حذار من مهاجمة الأحزاب الدينية أو الكردية أو البنتاجونية لأنها تملك ميليشيات مسلحة يمكن أن تغتالك أو تحرق مكتبك أو تفجر سيارتك‏.‏ فهذه الأحزاب والحركات تعتقد أنها الوريثة الشرعية لحزب البعث والجيش العراقي الذي تم حله وإعادة ربطه بعد تسليحه بالخناجر‏.‏
زوروا العراق وتمتعوا بحرارة تصل إلي‏55‏ درجة في ظل انقطاع الكهرباء والماء‏.‏ وإذا أردتم إرواء عطشكم فعليكم باحتساء البيرة المثلجة التي تباع علي قارعة الطريق في أي مكان‏.‏ ولمزيد من الترويح يمكنكم دخول أي دار سينما في بغداد والبصرة والموصل لمشاهدة أجرأ الأفلام بدون قطع أو حذف أو تدخل من الرقابة التي لا وجود لها علي الإطلاق‏.‏

أما المرور في الشوارع فهو حر بمعني الكلمة حيث تستطيع أن تقف بسيارتك في أي وقت ومكان وتستدير من أية زاوية‏..‏ بل تقود سيارتك بالمقلوب‏.‏ وأكثر من هذا يمكنك أن تدهس من تشاء وتصدم أية سيارة‏.‏ ولا تفاجأ إذا شاهدت ناقلة دبابات أمريكية طويلة عريضة تختال في شوارع العاصمة في عز الظهر وتحطم في طريقها عشرات السيارات وسط تصفيق المواطنين العراقيين الأحرار الذين يدعون آناء الليل وأطراف النهار بالعمر الطويل للرئيس بوش وممثله في العراق بريمر‏.‏
زوروا العراق اليوم وكل يوم فزيارة هذا البلد لا تحتاج إلي أية تأشيرات سفر وليست لديه علي الحدود أية أجهزة أمنية أو جمركية تضطهدك أو تدقق أوراقك أو تفرض عليك رسوما أو تصادر ممنوعاتك‏.‏

ولمزيد من المعلومات اتصلوا الآن بأقرب سفارة أمريكية للحصول علي الدليل السياحي للعراق‏..‏ الوطن المفقود‏..‏ بلد ألف دبابة ودبابة‏.‏
هذه الصورة الدرامية المبكية‏,‏ والساخرة المرسومة بالقلم‏,‏ لا تحكي آلام الكاتب وحده‏,‏ ولكن آلام‏,‏ ومعاناة كل العراقيين‏,‏ ووقائع حياتهم‏,‏ وهي ليست بعيدة عنا‏,‏ وتكشف عن أنه حانت لحظة الحقيقة‏,‏ لنخرج‏,‏ جميعا‏,‏ من صمتنا‏,‏ الذي لازمنا منذ سقوط الثعبان‏,‏ الذي وصفه الفرحان في مقال آخر‏,‏ إذا أراد الشعب العراقي أن يعيش بسلام‏,‏ وحرية‏,‏ وأن يمتلك إرادته من جديد‏,‏ فإن عليه أولا أن يبحث عن الطاغية في كل مكان‏,‏ فهذه مهمة العراقيين‏,‏ وليس الأمريكيين‏.‏ إن المواطن العراقي البسيط‏,‏ أبو تحسين الذي أذاع البيان رقم‏(1)‏ يوم‏9‏ أبريل‏2003,‏ حين ظهر في القنوات الفضائية العالمية‏,‏ وهو يضرب صورة صدام حسين بـ الشبشب يستحق أن نساعده في البحث عن ذلك الطاغية‏,‏ وتسليمه إلي عائلات الضحايا‏,‏ الذين دفنهم في المقابر الجماعية‏,‏ في طول البلاد وعرضها‏.‏

عراقنا‏,‏ يعيش تحت ظلال طاغيتين‏,‏ الأول قاتل ومجرم مختف‏,‏ خيال مآتة مازال خوفه يعشعش في الضمائر‏,‏ أما الثاني فاحتلال بغيض يضغط علي الكرامة الوطنية‏,‏ ويهمش وطنا وشعبا كريما‏,‏ والخوف كل الخوف أن يمتد إلينا هذا الخوف ويستمر السكوت العربي‏,‏ والهروب من مساعدة الأشقاء العراقيين الذين علينا أن نخرجهم من هذا الكابوس المزعج‏.‏
يجب أن يظهر الآن‏,‏ وفورا صوت واضح وقوي‏,‏ يطالب بإنهاء الاحتلال‏,‏ وحشد العالم‏,‏ وفي مقدمته الأشقاء‏,‏ لإنقاذ العراقيين‏,‏ ووضع حد لمأساتهم‏,‏ التي سوف تدمي الضمير الإنساني والعالمي لسنوات طويلة‏,‏ لتحكي ظلم الإنسان لأخيه الإنسان‏,‏ وسط لامبالاة من الأقربين‏,‏ بل وظلم الأقربين‏,‏ وتسلط وجبروت واستعمار وانتهازية العالم من حولنا‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى