أيها القاهريون.. أين أنتم؟!

تحتفل القاهرة بعيدها القومي, من خلال عمليات تجميل متسارعة, تنفض غبار الزمن, المتراكم من فوق وجهها, فبالقرب من ميدان التحرير في قلب العاصمة, وضعوا تمثالا لعمر مكرم, إلي جوار الجامع الشهير المعروف باسمه, أما أسفل التمثال فتم بناء جراج متعدد الطوابق تحت الأرض, وفوقه اقيمت حديقة منسقة, اعترافا بدور ذلك المصري, الذي ساعد محمد علي باشا الألباني للوصول إلي حكم مصر, وعن طريقه دخلنا عصر الدولة الحديثة.
وأنت في طريقك إلي ميدان التحرير أيضا لن تخطيء عيناك ميدان عبدالمنعم رياض وتمثاله, إنه يعبر عن احترامنا للعسكرية المصرية الحديثة, ا لتي فتحت لنا الطريق إلي نصر أكتوبر73, لتمحو عار هزيمة يونيو1967, وقبل ذلك كانت قد اقيمت مجموعة أخري من التماثيل للشوامخ من المبدعين المصريين الكبار, الذين جددوا العقل وأعطوا لمصر شخصيتها المعاصرة, ففي الجيزة الضاحية الكبيرة للقاهرة, المحافظة الآن, وضعوا تماثيل, الأديب العالمي نجيب محفوظ, في ميدان سفنكس, وعميد الأدب العربي د. طه حسين في ميدان الجلاء, وأمير الشعراء أحمد شوقي أمام حديقة الأورمان في الدقي, أما تمثال أم كلثوم, فوضع امام فيللتها, التي اصبحت برجا قبيحا في الزمالك, ليذكرنا تمثالها بالجمال الضائع في حي الزمالك.
ولكن, بالرغم من ثورة التجميل المتلاحقة هذه, فإن القاهرة وضواحيها تبتلع استثمارات كبيرة, حتي تكدس فيها ما يقرب من ربع عدد المصريين, إضافة إلي كل مؤسسات الدولة ووزاراتها المختلفة وبالتالي لن تحل عمليات التجميل مشاكل القاهرة, فحتي مترو الأنفاق, ذلك المشروع العملاق, لم يعف القاهرة من الميكروباص الذي اصبح جريمة متنقلة في المدينة العريقة.
قد يصبح ميدان التحرير أكثر جمالا, لكن ميدان( رمسيس) أو المحطة سابقا, مازال نموذجا للفوضي, فلا هو ميدان ولا سوق, ولا محطة للقطارات, بل كل ذلك معا, فأصبح نموذجا لسوء الإدارة والمرور, وعندما كنت أناقش بعض المتخصصين عن عدم تدفق الاستثمارات الأجنبية إلي مصر متسائلا: لماذا لا نحصل علي نصيب يتناسب مع إمكانياتنا, رد علي أحدهم فورا قائلا: عندما تنظمون ميدان رمسيس وتفتحون شوارعه للحركة وتصبح فيه حركة سير الأفراد والمركبات سهلة ومنظمة.
ومازلت اتساءل كيف يتحقق هذا الأمل, في الوقت الذي اصبح فيه ميدان رمسيس ثلاثة طوابق, تحت الأرض( المترو ومرافقه) والثاني المرور السطحي في الشارع والميدان وامتداداته, أما الثالث فعلوي, هو كوبري6 أكتوبر الذي يخترق النيل مرورا بشارع الجلاء ورمسيس حتي مدينة نصر؟!
وإذا كانت هناك صحوة قاهرية مشهودة للإصلاح في كل الاتجاهات, فدعني اقول لمحافظها الدءوب د. عبدالرحيم شحاتة: إن وجه القاهرة الجميل المشرق لا يعود بالعمل وحده, أو الانشاءات الحديثة فقط, ولكن بعودة القاهريين إلي القاهرة, ومازلت اتساءل أين هم؟ وحتي لا يفهمني أحد خطأ, كما سبق ان فهموا المحافظ خطأ, حينما تكلم عن الصعايدة فاتهموه, وهو الريفي, بالعنصرية وغيرها, من الاتهامات الظالمة, أبادر فأقول: إن القاهريين ليسوا جنسية, فنحن جميعا مصريون, ولكن القاهري كان في الماضي سلوكا ونظافة وفهما وشكلا يمتلك مجموعة من قيم المدينة, وهي ليست كأي مدينة أخري, ولكن المدينة المتحف والتاريخ, مدينة القاهرة, عربية, وأوروبية, ممتزجة في سبيكة واحدة, جعلت للقاهري الذي يعيش فيها طابعا خاصا, يميزه للوهلة الأولي عن الآخرين ومن لا يتذكر سوف أذكره, بحديقة الحيوان القديمة والأورومان والأزبكية والعتبة, والمنيرة, وحدث بلا حرج عن أحياء الزمالك, وجاردن سيتي, والأخير كان اسما علي مسمي, وأعتقد أنه يجب أن يغيروا اسمه الآن ليصبح باركنج سيتي فذلك اسم جديد يليق بوضعه الحالي, وهل ننسي وسط المدينة الذي كان تحفة معمارية لا تخطئها العين, أما الآن فكل البيوت فيه قديمة, إلا ما ندر؟! ولعلنا لا ننسي التحفة المعمارية معهد الموسيقي العربية, بعد ترميمه, وكيف عاد كباقة ورد, لكن وسط غابة من العشوائيات والمسارح الرديئة, التي استولت علي حديقته الخلفية, وجعلته محاصرا من الشارعين المحيطين به, بآلات التنبيه في السيارات والزحام الخانق حوله, فأصبح مختفيا, ولا يمكن رؤيته أو الإحساس بمتعة تذوقه.
أعود إلي القاهري الذي اختفي, سلوكا, ومضمونا و صوتا, وأتساءل أين هو, وقد كنت تلمسه في كل إنسان حولك, بدءا من تاكسي القاهرة الذي كان مفرحا للجميع, حتي استلهمه المغنون في اغانيهم, تاكسي القاهرة النظيف, والسائق بزيه المعروف, ونظافته المعهودة, بكلماته القليلة المؤثرة, هذا التاكسي أصبح الآن يضاف إلي الميكروباص نموذجا يعكس الفوضي, ولا أقول الجريمة المتحركة.
كنت ومازلت أتساءل عن ذلك القاهري الغائب, وهو مثل كل المصريين, كان يأتي من الريف بحري وقبلي, لكنه مع الوقت كان يكتسب مفردات الحياة القاهرية, وسلوكها, فإذا بالقاهري الآن, بدلا من اكتساب ذلك, راح ينقل كل عشوائيات القرية, وعدم تنظيمها إلي القاهرة, فتم ترييف المدينة, وأدعو الآن إلي العودة للبحث عن القاهري الغائب, ليعود مثلما عاد الاسكندراني إلي مدينته الاسكندرية الذي يستطيع الآن الحركة علي كورنيش المدينة بنظام وبلا تلوث في الأصوات.
وكان نجاح محافظ الاسكندرية عبدالسلام المحجوب الأبرز, في جذب أهالي الاسكندرية, فالرجل لم يجذب رجال الأعمال للإسهام في تجميل مدينته فقط, بل جذب معهم شعب الاسكندرية كاملا للحفاظ علي النظافة والانضباط, وفي القاهرة نريد أن نسير في نفس الاتجاه, والدعوة عامة لكل قاهري غيور ليشارك في عودة القاهريين إلي سلوكهم القديم.
وهناك قضيتان ملحتان, أمام القاهرة في عيدها القومي, وهما أولا: إن القلب عندما يتحرك وينتظم ويتم تغيير شرايينه التالفة, ينعكس علي الأطراف, والمدينة الحالية تحتاج إلي رئة جديدة أو وسط مدينة مختلف, وأقترح علي محافظها أن ينشيء شركة جديدة, بالتعاون مع شعب القاهرة ومؤسساتها المختلفة, لانشاء وسط مدينة جديدة, شبيه بوسط مدينة بيروت, ليمتد هذا القلب الجديد من عشش الترجمان الموجودة, خلف ماسبيرو, ثم السبتية بكل ملحقاتها, ليضم منطقة شرق النيل بأكملها, ليكون وسطا منظما وجميلا للمدينة, ويليق بالتطورات التي تحدث في القاهرة الآن, علي ألا يتم التخطيط له عشوائيا, خاصة أن تلك المنطقة شهدت وتشاهد تطورات مهمة, مثل مباني التليفزيون, المتعددة, ووزارة الخارجية, والبنك الأهلي, ودار الكتب والوثائق القومية, والهيئة المصرية العامة للكتاب, والفنادق العملاقة الجديدة, أما القضية الثانية, فهي نظافة القاهرة, وقد كانت فكرة جلب الشركات العالمية لتنظيف أحياء القاهرة الثلاثين ناضجة, لكنها إلي الآن لم تنجح, وأرجو من المحافظ أن يزور كل الأحياء, ليري أنه لاتزال أكياس القمامة متراكمة في مكانها, وليكتشف أن الأحياء عادت إلي حالتها السيئة في السابق, حتي في مدينة نصر ومصر الجديدة.
إن عبء القاهرة كبير, وحاجتنا إلي عودة القاهريين, ومشاركتهم للمحافظ ولأجهزة الدولة في إحياء المدينة وعودتها إلي سابق عهدها.
وأتساءل: لماذا لا نفكر في تفكيك المركزية حتي لا تظل العاصمة تتحمل وحدها ما لا طاقة لها به, فيعود الجمال إليها وإلي كل مدننا؟!