مقالات الأهرام اليومى

نظرة أولي من مطار القاهرة

لسنوات طويلة‏,‏ كنت لا أستطيع أن أوقف ذهني عن ملاحظة ثابتة لا تتغير عند هبوطي في مطار القاهرة الدولي‏,‏ ففي كل مرة كنت أعود فيها من رحلة خارجية‏,‏ أتساءل‏:‏ هل نحن جادون في الرغبة في الارتباط بالاقتصاد العالمي‏,‏ وهل نريد أن نكون‏,‏ حقا‏,‏ نقطة الجذب للاستثمارات العالمية‏,‏ ومحورا للتجارة الدولية‏,‏ أو راغبون في دور في تجارة الخدمات‏,‏ والتي يأتي في مقدمتها جذب السائحين؟‏!‏

كانت أسئلتي متلاحقة دائما‏,‏ أما الإجابات فمتوقفة لأنها لن تكون سهلة‏,‏ إلا إذا كانت هناك جدية‏,‏ فالجدية في تعريفها المطلق‏,‏هي السياسة الواضحة القوية والمستمرة‏,‏ التي تتطور وتتلاحق نحو تحقيق أهدافها المرجوة‏,‏ أما بالنسبة لنا نحن المصريين‏,‏ فالجدية لها تعريفات نسبية‏.‏

ومطار القاهرة‏,‏ صورة عاكسة لأوضاعنا الداخلية‏,‏ فهو لا يعبر عن مكانة مصر السياسية‏,‏ ولم يعد منفذا طموحا في بلد يرغب في مكانة ودور اقتصادي في محيطه‏,‏ فقد أصبح وكأنه مطار إفريقي‏,‏ وليس شرق أوسطيا‏,‏ وبالطبع لا يمكن مقارنته ببعض الدول العربية الأخري‏,‏ التي لجأت في السنوات الماضية إلي تحقيق تطور اقتصادي مذهل في مجال المطارات والموانئ والطيران عموما‏,‏ فقد ربطت هذه الدول عواصمها بشبكات طيران عالمية دولية وإقليمية متماسكة ومتطورة‏,‏ واتخذت منها وسيلة مواصلات فعالة‏,‏ ومتاحة ومريحة ومبهجة لكل مستخدميها‏,‏ وهو أمر يعكس التطور المتلاحق‏,‏ ونمو الدخل لدي الناس في هذه الدول‏,‏ الذي انعكس بدوره علي حركتهم وأسفارهم واستخدامهم للطيران‏,‏ كما أظهر التطور الاقتصادي لهذه البلاد‏,‏ الذي جعل من نقطة جمركية حرة في ميناء جو خليجي يحقق فائضا ماليا لإدارة المطار يفوق المليون دولار‏,‏ قارنت ذلك مرغما بدخل قناة السويس وقلت‏:’‏ الدنيا تتطور وتتغير‏,‏ وويل للذين يعيشون علي الماضي فتتطور وسائل المواصلات والاتصالات غير من الموقع الجغرافي‏,‏ وجعل دولا كانت علي الهامش‏,‏ في قلب الأحداث‏,‏ وبلدانا في حجم حي كبير لدينا‏,‏ تلعب أدوارا متعددة‏,‏ وقلت لنفسي أيضا إن التغيير يهيل التراب علي المكانات القديمة‏.‏

ولعلني هنا أتذكر واقعة طريفة‏,‏ تشير إلي الحال التي وصل إليها مطارنا العتيد‏,‏ وهي أنني منذ أشهر قليلة‏,‏ لاحظت تغييرا طفيفا‏,‏ وإن كان شكليا‏,‏ في خدمات المطار‏,‏ عندما حاولت الحصول علي عربة لحمل الحقائب‏,‏ وكان من عادة معظم القادمين الذين عرفوا مطار‏,‏ القاهرة هي الحرص علي توفير جنيهات مصرية قليلة للحصول علي عربة‏,‏ وكنت أجد إلي جواري بعض السائحين‏,‏ وهم في حالة من البلبلة والدهشة‏,‏ يتساءلون كيف سيحصلون علي عربة حمل الحقائب وهم لا يملكون هذه الجنيهات المصرية؟ وكأننا كنا نتركهم فريسة للمبتزين‏,‏ وكان من عادتي عند حصولي علي أي عربة‏,‏ أن أقدمها للبعض منهم معتذرا عن هذا السلوك الإداري المعيب في المطار‏,‏ وإن كنت أدرك أن موقفي هذا لن يغير من الوضع العام‏,‏ والانطباع الذي سوف يأخذه كل قادم إلينا‏,‏ فإن هذا السلوك المعيب القاصر شكلا ومضمونا‏,‏ يعطي الانطباع بأن لا إرادة حقيقية هناك لتوفير الخدمة‏,‏ وهو أمر يعكس فكرا لا يتناسب مع روح العصر‏,‏ ولا يستطيع أن يدير‏’‏ مول أو محلا معاصرا‏’‏ فكيف لهذا النوع من الفكر أن يدير مطارا يعبر عن واجهة بلدنا‏,‏ وينبئ بمستقبله؟

لكن عند عودتي أخيرا‏,‏ حصلت علي عربة‏,‏ واكتشفت أن الخدمة أصبحت بالمجان‏,‏ تبادلت النظرات مع مصري آخر كان قادما من الخارج‏,‏ وكأنه أراد أن يقول لي ماذا جري ؟

قلت له‏:’‏ نأمل خيرا‏’‏ فلعل هناك خطوة للتغيير‏,‏ ورؤية للتصحيح‏,‏ ولكن لم يدر بخلدي‏,‏ أن يكون هذا التصحيح حقيقيا‏,‏ فقد وجدت في هذه المرة صورا مختلفة وأعمالا دءوبة تجري وتدب في كل أرجاء المطار‏.‏

تحاورت مع صاحب الصورة الجديدة‏,‏ الفريق أحمد شفيق‏,‏ وزير الطيران‏,‏ فوجدته واقعيا معترفا بأننا تأخرنا طويلا‏,‏ وبأن علينا ملاحقة المتغيرات‏,‏ فسألته‏,‏ هل ما يتم في المطار حاليا‏,‏ هو حالة يقظة مؤقتة أم إصلاح جزئي؟ وإذا كان الأمر كذلك فإنه سيصبح عشوائيا هو الآخر‏,‏ كما حال المطار في السنوات الماضية‏,‏ أجاب الوزير بعد صمت قصير‏,‏ لقد سكت طويلا‏,‏ ولم أتحدث من قبل‏,‏ حتي أقدم صورة متكاملة‏,‏ والآن‏,‏ أستطيع أن أفعل ذلك بعد أن أصبحت لدينا دراسة شاملة‏,‏ للتخلص من كل عشوائيات المطار‏,‏ قلت له‏:‏ هل تخططون للتنافس مع المطارات العربية؟ قال‏:‏ لن ننافس أحدا‏,‏ ولكننا نريد مطارا مصريا علي مستوي المطارات الأوروبية‏,‏ كمطاري ميونخ‏,‏ وفرانكفورت‏,‏ وأننا نخطط لذلك‏,‏ حتي بالنسبة للعاملين في المطار‏,‏ سوف نرفع من قدراتهم بالتدريج‏,‏ ليكون علي نفس المستوي شكلا ومضمونا‏,‏ علي الرغم من أننا لم ننجز أكثر من‏25%‏ من أعمال المطار المرتقب‏,‏ فإن هذه الأعمال بوضعها الحالي‏,‏ تضاهي المعايير الدولية للمطارات‏,‏ ولكننا لم نقتصر علي مطار القاهرة وحده‏,‏ فأعيننا علي مطار برج العرب في الاسكندرية‏,‏ ليكون هو أيضا علي نفس المستوي العالمي المأمول‏,‏ أما بالنسبة لخدمات الطيران‏,‏ وشركاتنا‏,‏ فسوف نطورها بالكامل‏,‏ ونرفع من قيمتها‏,‏ ولن نتواني عن استخدام الخبرات الأجنبية في عملية الطيران والتسويق وخدمات المستهلكين‏.‏

أدركت أن الصورة الأولية‏,‏ قد تكون مبشرة‏,‏ لأن المتغيرات علي أرض الواقع‏,‏ تكشف عن عمل مختلف‏,‏ كما أن الوزير الذي يقود هذا التحديث‏,‏ رجل واقعي‏,‏ يؤمن بالإدارة العلمية‏,‏ ويأخذ حق الدولة بالانضباط والالتزام‏,‏ وفي الوقت نفسه لا يجامل أيا من العاملين علي المصلحة العامة‏,‏ كما أنه لايهتز من القوي الخفية‏,‏ التي تريد استمرارنفس الأوضاع القديمة‏.‏

لقد خطط الرجل‏,‏ وبدا التنفيذ‏,‏ وسألته عن‏’‏ الشماعة الدائمة‏’‏ التي نعلق عليها توقف الأعمال‏,‏ عندما تبدأ كبيرة وتنتهي صغيرة‏,‏ وهل حصلتم علي ميزانية إضافية‏,‏وكيف تم توفير الموارد لهذا العمل المأمول؟‏!‏ فرد قائلا‏:‏ لم نحصل علي أية مبالغ إضافية جديدة‏,‏ وليس في تخطيطنا ذلك‏,‏ بل قمنا بالعمل من خلال مواردنا الذاتية‏.‏

ما يحدث في مطار القاهرة‏,‏ سواء داخل الممرات أو الصالات‏,‏ وخارج المطار‏,‏ يعكس قدراتنا الكامنة‏,‏ عندما نملك إدارة قوية تقرر وتلتزم وتثق في نفسها‏,‏ وفي قدرتها علي الإنجاز‏,‏ وأتفق مع الوزير أحمد شفيق‏,‏ في أننا يجب أن نتحفظ‏,‏ ولا نطلق لأنفسنا العنان حتي تكتمل الصورة‏,‏ ويصبح العمل حقيقة واقعية‏,‏ فالمطار ليس وزيرا فقط مهما يكن قادرا‏.‏

وقد طالبت الوزير أحمد شفيق‏,‏ بأن يتدخل بنفسه‏,‏ وأن يعطي شكلا جديدا في المطار‏,‏ لنري من خلاله ضابطات للجوازات‏,‏ يشعن جمالا مصريا خالصا يعكس صورة مصر الجميلة كما أتطلع أن تتدخل وزارة الزراعة المصرية لتقوم بتشجير الصحراء المحيطة بالمطار لتغييرها من اللون الأصفر إلي الأخضر الجميل‏..‏

أحلام كثيرة‏,‏ ولكن دعني أتوقف الآن‏,‏ والمهم هو أن الخطوة الأولي بدأت‏,‏ ولكن الأهم ألا تتوقف كالعادة‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى