مقالات الأهرام اليومى

الحوارات الخيالية‏..‏ والفضفضة الصحفية

لم أتصور أنهما حواران خياليان‏!‏ الأول كان حول قضية داخلية تشغل بال الأسرة المصرية حول التعليم في مصر‏,‏ ابتدعه أحد كبار كتابنا‏,‏ أما الثاني فكان حول قضية اقتصادية نشره أحد كتابنا المتخصصين‏,‏ عندما قرأت الحوارين وجدت أن كل كلمة فيهما تشير وتنبيء بأنهما حقيقيان ومن مضابط الجلسات‏,‏ بل كأنهما الحقيقة بعينها بلا تكلف أو تجميل أو إخفاء‏,‏ وكنت أتساءل‏:‏ هل يمكن أن يقول المسئول الحقيقة بهذه الصراحة‏,‏ وهل لو كنت مكان الكاتبين‏,‏ هل أنقلها هكذا بلا رتوش أم أخففها حتي تكون مقبولة ؟‏.‏

رحت أقرأ الحوارين حتي السطر الأخير لأكتشف في النهاية‏,‏ أن الحوارين جاءا نسيجا فريدا من إبداع الكاتبين‏,‏ وليس اعترافات لهذا المسئول أو ذاك‏,‏ ولأنه لون جديد من الأعمال الصحفية‏,‏ فقد ذهبت لمناقشة الحوارين مع المتخصصين‏,‏ فجاءت الإجابات كاشفة عن حقيقة غائبة‏,‏ وهي أننا وصلنا إلي نقطة اشتباك مفصلية في غاية الدقة‏,‏ وفي الوقت نفسه جديدة حتي إن الكاتبين اللذين هما من أكثر منتجي المعلومات أو القدرة علي الوصول إلي المضابط الحقيقية اكتشفا أن المثير والجاذب للقاريء لن يكون إلا بالخيال‏,‏ عبر فضفضة صحفية‏,‏ قد تصل إلي المرتبة الروائية‏,‏ التي تنقل العمل الصحفي إلي خانة أخري تماما أو مجال مختلف‏,‏ ولذلك تم ابتداع هذا النوع الخصب الذي قد يتحول تدريجيا إلي فن جديد من فنون الصحافة‏,‏ يضاف إلي الخبر والتحقيق والحديث ليتناسب مع تطور ناشيء‏,‏ سياسيا واقتصاديا واجتماعيا‏,‏ يعيشه مجتمعنا في الوقت الراهن‏.‏

هذا التناول المختلف كانت الكتابة فيه هي محور الإمتاع‏,‏ فقط‏,‏ كلون جديد‏,‏ جاء نتيجة للمناخ الذي نعيشه‏,‏ فقد وصل فيه المسئول إلي آخر نقطة يستطيع التحرك إليها‏,‏ فهو غير قادر علي مكاشفة الناس بالأوضاع الحقيقية‏,‏ التي نحن عليها‏,‏ لعدم قدرته علي وضع الحلول‏,‏ أو لأن المتلقي‏,‏ وهو الجمهور الواسع الذي يحصل علي الخدمة‏,‏ لن يقبل‏,‏ ما يقوله المسئول‏,‏ لأن هذا الجمهور أيضا لا يستطيع دفع ثمن الإصلاح أو حتي قبوله‏,‏ ولذا فمن الطبيعي‏,‏ والحال كذلك أن نظل داخل نفق أو ندور في حلقة ضيقة مفرغة‏,‏ ونتخذ نفس الحلول والسياسات‏,‏ التي أصبحت لا تغني ولا تسمن من جوع‏,‏ فالمسئول والجمهور كلاهما لا يتقبلان العلاج أو الحلول الجذرية وأصبحا متشبعين بعدم القدرة علي التلاقي إلا عبر الخيال أو الفضفضة‏,‏ التي هي الأخري ستضاف إلي قائمة عدم القدرة علي المواجهة وستصبح فائدة الخيال الوحيدة هي أنها ستكون إضافة إلي الفن الصحفي‏,‏ وليست خطوة علي طريق العلاج والتصحيح‏,‏ وكانت قمة الإثارة في سؤال هل حدث هذا الحوار أم لا‏,‏ وماذا ستكون النتيجة بعده؟ لكن مع هذا الخيال لم تكسب القضية بل كسب الكاتب أو مبتدع الرؤية المختلفة‏,‏ ولعل محاولتي للمناقشة هنا تساعد في العودة إلي نقطة البداية‏,‏ وهي كيف نفض الاشتباك‏,‏ ونصل إلي الحل‏,‏ ومن يشعل الشمعة حتي نري الضوء في نهاية النفق؟

فمن الواضح الآن أن الحلول الروائية تكشف عن الحل الجزئي أو المسكنات فقط‏,‏ وهي حلول لم يعد في الإمكان قبولها‏,‏ بل حتي مناقشتها‏,‏ فنحن في مرحلة تشبع‏,‏ لأننا أكثرنا طوال السنوات الماضية من هذه الحلول الجزئية وتلك المسكنات‏,‏ والغريب أنها قدمت كلها كحلول جريئة للسياسات الداخلية المهمة‏(‏ كالتعليم والصحة‏)‏ ومع ذلك لم تجد‏,‏ أما السياسات الاقتصادية‏,‏ والإصلاحية المبتكرة فتوقفت جميعا أو تعثرت بشدة‏,‏ كما أن نتائج هذه السياسات أصبحت واضحة للجميع‏,‏ وانعكست إحباطا علي خريجي الجامعات والشهادات المتوسطة‏,‏ الذين انتشرت بينهم البطالة‏,‏ التي تزامن معها ارتفاع الأسعار وعدم نمو الاقتصاد‏,‏ وانخفاض قيمة الجنيه‏,‏ بل أصبحت فرص العمل خيالا‏,‏ والكل يتساءل أين اختفت روح الثمانينيات والتسعينيات؟

نقطة البدء التي قد تشغل خيال الناس والجمهور وتلهب حماستهم وتعود بهم مرة أخري من الخيال أو الفضفضة إلي الواقع والحقيقة لن تكون في إعادة إنتاج ما هو قائم أو تحسين الصورة وتبييض الوجوه أو حتي تغيير الأشكال أو الصور بل عبر روح جديدة وتغيير شامل تحدث فيه المكاشفة ليس بحكومة جديدة فقط ولكن من خلال سياسات مختلفة؟ ومحافظات جديدة‏,‏ فالخريطة المرجوة لمصر يجب أن تظهر ويعاد التقسيم الإداري‏,‏ ويتم الإعلاء من شأن القرار اللامركزي‏,‏ الذي سيؤدي إلي زيادة مشاركة المواطنين وتوسيع رقعة الاستفادة من الناس جميعا‏,‏ وهو الأمر الذي أكدته تقارير التنمية المختلفة للحكومة والمجالس القومية المتخصصة‏.‏

لن تعود الروح والحيوية إلا عبر قيادات صريحة‏,‏ تقول للناس ما تكلفة الخدمات ومن يدفعها‏,‏ وكيف يدفعها‏,‏ فلن تعود هذه الروح إلا عبر الصراحة والقوة في طرح القضايا‏,‏ لأن المسئول أو الوزير لن يحلها وحده بدون مشاركة الناس أصحاب القضية والحصول علي حماستهم وتأييدهم وتعاونهم‏.‏

فالتقدم والنمو ليس مسئولية حكومة بدون ناس‏,‏ فالمشاركة حتمية في اتخاذ القرار‏,‏ وتحسين حياة الناس واقتصادهم يرتبط بحيويتهم ومشاركتهم‏,‏ ولن يأتي هذا‏,‏ بدون الواقعية ومسئولين أكفاء‏,‏ يتواضعون‏,‏ وهم يتعاملون مع الناس‏,‏ لأنهم‏,‏ وإن كانوا أفضلنا للإدارة فليسوا بأفضلنا في القدرة والمعرفة‏,‏ وقدرتهم علي النجاح تكمن في التنسيق والمتابعة بين الجميع‏,‏ لتفعيل أفضل الأفكار‏,‏ وأكثرها إمكانية للتنفيذ‏,‏ إذن فالتواضع وليس استفزاز الناس هو نقطة البدء لدي المسئول الجيد والمتوازن‏.‏

الحوارات الخيالية وجاذبيتها كشفت عن أننا ينبغي أن نعود إلي الواقع والحقيقة‏,‏ وإننا في حاجة إلي قيادات جديدة ومسئولين مختلفين يقودوننا إلي الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في كل المجالات بلا خوف أو توقف ويدركون أن الشعب والناس قادرون علي دفع ثمن الإصلاح وعدم الانتظار‏,‏ إذا وثقوا فينا وفي إخلاصنا‏,‏ وأننا نشاركهم جميعا الأحلام والآلام معا‏,‏ وحتي تنجح هذه الروح فهي في حاجة إلي بعث المؤسسات وتفعيلها لاجتثاث الفساد بكل أشكاله‏,‏ وما أعنيه ليس الفساد المالي‏,‏ فهو وإن كان خطرا فالفساد الإداري أو الاختلالات البيروقراطية في القطاع الحكومي‏,‏ وتأخير التقاضي أو غابة التشريعات والقوانين كل هذا جميعا سيجعل الوصول إلي الحق سرابا‏,‏ وعدم تنفيذ الأحكام وتأخيرها سلوكا عاديا‏,‏ كما أن التقاضي بتمييز أو عشوائية يعد خطرا علي الاستقرار والروح العامة للمواطنين أما الأخطر فهو فساد المؤسسات ذات الصدارة الحكومية والتشريعية‏.‏

لكن المساواة وحدها بين الناس جميعا هي ما ستخلق روحا مبتكرة وسلوكا مختلفا‏,‏ ومن أجل تفادي كل ذلك‏,‏ فلتنظموا القوانين ولتفتحوا المجال للجميع بلا استثناءات‏,‏ وبروح عامة مفتوحة‏,‏ وسياسة إصلاحية مستمرة‏,‏ وسترون العجب من المصريين‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى