الأبعاد المحلية.. للأزمات الإقليمية

أصبح لازما علي العقلاء أن يتمثلوا الأزمات والكوارث الإقليمية الفادحة من حولنا, ليتدبروا أمورهم وسياساتهم, ليس الخارجية وحدها, ولكن المحلية أولا, وإذا كانت كارثة العراق قد كشفت فداحة وهشاشة الدولة الديكتاتورية أمام أي عدوان خارجي, فإن سقوطها المدوي لأركانها ومؤسساتها المختلفة جعلها, وكأنها لم تكن بالأمس ملء السمع والبصر, وهي التي كانت لها القدرة الرهيبة, علي المواجهة والبطش بالمواطن البسيط, وإهدار كل حقوقه الاقتصادية والقانونية علي كل المستويات.
فقد اكتشفنا أن كبار الوزراء والنواب والخبراء, الذين كان من واجباتهم تقديم النصح والمشورة, لم يفعلوا ذلك أبدا, بل كانوا يرتعدون أمام الحاكم بأمره, خوفا وطمعا في نفس الوقت, أما المؤسسات العسكرية والأمنية هي الأخري فكانت مفرغة من الداخل وعاجزة عن اتخاذ أي قرار لصالح الوطن أو المؤسسة.
وعند أول مواجهة تركوا جميعا مسئولياتهم وواجباتهم وهربوا, ليس ضعفا أو تخادلا في طبيعة الشخصية, ولكن لخلل جوهري في طبيعة البنيان المؤسسي الديكتاتوري القائم علي حكم الفرد الذي لم يهمش أدوار الآخرين فقط, إنما ألغي كل شيء, وجعل للوطن عنوانا واحدا هو شخصه, وإذا لم يكن موجودا, وهو كثيرا ما كان يختفي, فصورته تكفي, فقد جعلها في كل مكان لتراها العين من كل زاوية أو ركن ولا نسمع ولا نري, إلا كلماته ووجهه, فجاء السقوط سهلا بل ومدويا.
هذا هو البعد الأول, الذي يجب أن نتمثله في حياتنا وأسلوب تفكيرنا, فالوطن يجب أن يتكون من مؤسسات حديثة, يتحمل الكل فيها مسئولياته, ولا تكون هناك مسئولية فردية, أو تكون هناك مؤسسة واحدة تعمل بكفاءة, بينما المؤسسات الأخري تبقي مهمشة و ضعيفة, وما ينطبق علي المؤسسة يجب أن ينطبق علي السلطات, وهي بمثابة المؤسسات السياسية الحاكمة للدولة وبنيانها, فالفصل بين السلطات ضرورة حتمية لرفع الكفاءة وقدرة الدولة وفاعليتها, حتي لا تصبح المؤسسات أو السلطات بمثابة الأواني الفارغة موجودة كشكل, لكنها غير مؤثرة في الواقع, ويجب ألا تديرها جماعات تفرغت لمصالحها الشخصية وتحقيق مآربها علي حساب المجتمع, ولا يجب أيضا أن تكون هذه الشخصيات من الضعف وعدم التأثير مما يجعلها تترك سلطاتها للآخرين, وهذا ما يضعف المجتمع, ويصيبه بالأمراض.
فالمجتمع عندما يكون قويا ومؤسساته عفية, لا تجرؤ أي قوة, مهما كانت أن تخترقه فقط, ولكنه سوف يوضع في ميزان عال, حتي الولايات المتحدة الأمريكية مهما كانت قوتها لا تستطيع الدخول إلي عاصمة لدولة متماسكة, حتي ولو كانت هذه الدولة صغيرة, فقوة المجتمع وتكاتف الناس مع الدولة بدون سلاح يمكن أن يهزم أعتي الجيوش, ولكن الاختراق والضعف يكون عادة من هشاشة السياسات الداخلية الخاطئة والظالمة!
فمن القضايا المهمة, التي لم يدركها الحاكم العراقي هي أن الديكتاتورية وعدم المشاركة أديا إلي هروب العقول والكفاءات العراقية للخارج بالملايين والخسارة هنا مزدوجة, فلم تخسر الدولة العراقية قدرتهم وعقولهم في البناء والتطوير فقط, ولكن كان من السهل أيضا استخدامهم في اختراق الدولة الهشة وهزيمتها, وظل النظام الحاكم يبرر لنفسه أن هؤلاء خونة وعملاء, لكي يجمل نفسه, ليس أمام الآخرين, ولكن أمام نفسه حتي يستمر علي نفس السياسات الخاطئة, التي لم تؤد إلي التدخل الخارجي فقط, إنما الإنهيار الداخلي كذلك.
إذن من المفروض أن تكون هناك ديمقراطية, وبناء بنية أساسية لها, حتي يكون المجتمع قادرا علي نقل السلطة, لأفراده وجماعاته وأحزابه سلميا وبدون فوضي, وهذا الفرض أصبح واجبا وقضية جوهرية, لا تستطيع المجتمعات والبلاد الحديثة فكاكا منها, والتأخر عنها ينعت المجتمع بالفشل السياسي وهذا الأمر أصبح أخطر من الفشل الاقتصادي, لأن الفشل الأول يفتح الطريق لباب من جهنم هو التدخل الخارجي, والأخطر الاحتلال, وتحكم المحتل في مقدراته, وإن كان الفشلان الاقتصادي والسياسي يهمشان الدور الإقليمي, بل يلغيانه تدريجيا, فإنهما أيضا يهزان مكانة وقوة الدولة حتي ولو كانت من القوي المؤثرة إقليميا وثقافيا اعتمادا علي أنها وريثة حضارة وقيم تاريخية تكتسب الاحترام والمكانة, ولندرك أن عالم اليوم يختلف عن عالم الأمس, وإذا لم تكن حضارتك أو ثقافتك القديمتان قادرتين علي أن تكون مهمتين لمكانتك ودورك الحالي, فإنهما تصبحان كمن أصيب بالعقم, وإذا أردنا أن تكون فاعلة, فإنها تحتاج إلي مثقفين وملهمين ومبدعين جدد يبعثون فيها الروح لتحرك الأجيال الراهنة ليغيروا واقعهم ويخلقوا مجتمعا وحضارة معاصرة تتماشي مع عالمها, ويستلهموا تاريخها ومجدها القديم, بروح معاصرة تجدد حياة ومكانة الإنسان المعاصر, حتي لا يظل مأزوما ويهرب من واقعه الصعب ومستقبله الغامض ليعيش في ماض هو لايدرك كنهه حقيقة ولكن سمع ونقل له إنه كان عظيما والأخطر أن هذه الأزمات تلقي بعلامات الاستفهام حول قدرته القديمة ومكانته الموروثة.
إن درس أزمة العراق, كشف عن أن تحكم الأقلية واستبدادها يؤدي إلي انهيار الدولة, وأن عدم المشاركة الشعبية, يبعد الدولة عن الرشد ويدفعها إلي خوض حروب عبثية وتبني سياسات متطرفة, تؤدي إلي إفقار المجتمع, وتجعل رغبة الشعب هي الخلاص حتي ولو كانت تحت ظلال محتل بغيض, فعلي المجتمعات العربية, أن تعي دروس الأزمة, ليس الخارجية وحدها, فمن السهل أن تصل إلي اتفاقيات دولية وتعاون عالمي مع القوة الكبري في عالمنا, تمنع عدوانها وتلزمك القوة الكبري باحترام القوانين الدولية, ولكن من الصعب أن نبني مجتمعا حديثا منظما اقتصاديا وسياسيا, يقوم علي مؤسسات فاعلة وفي الوقت نفسه وليس محكوما بسياج من القانون يحمي الأفراد والمؤسسات, ويتيح تفاعلهم وفاعليتهم الاقتصادية والسياسية ومشاركتهم الاجتماعية في بناء المجتمع وحمايته, ففي هذا المجتمع يجب أن يشعر كل فرد مهما كان بسيطا, أن له حقوقا والتزامات فيشارك بنصيب وافر في بناء مجتمع ووطن يحمي مستقبله ليضمن مستقبل أبنائه, ويلتفون جميع حول العلم حقيقة وليس وهما.
كما أن المؤسسات والنخب السياسية يجب أن تتحلي بقيم وأخلاق وضمير, تسمح باستغلال كل إمكانيات المجتمع لتنمية بشرية وإنسانية ومؤسسية حقيقية تأخذ بيد الضعيف وتضمه للمشاركة ولا تهمش أحدا, ولا تقيم مجتمعا لنخبة من الأقوياء يحصلون فيه علي كل شيء, ويتركون المجتمع كله في فوضي وضعف, فيكون نهبا لكل غريب أو طامع أو مستغل, يبحث عن نقاط الضعف ويخترق المجتمعات منها ليصيبها ويقتلها ويتركها لعالم من الفوضي والخوف والرعب.
يجب أن ينتبه الجميع, فنستفيد من كوارثنا, حتي نكون من الأمم والشعوب الحية, لا من الذين لا يتعلمون فلا ينهضون, أو من الآخرين الذين يجملون واقعهم ويتهربون من مسئولياتهم.
والله فعال لما يريد!