العراق ما نعرفه وما لا نعرفه؟

العراق الذي نعرفه انتهي, فإما أن نلحق به, أو يلحق بنا! قد تكون هذه مقولة عامة, لكنها حقيقية بأبعاد ومتعددة, ومن حق كل مراقب أن يأخذها بالبعد الذي يريده, وحتي ندرك أبعاد اللعبة الكبري, التي بدأت توا, يجب أن نجرد عقولنا ومشاعرنا من أي أفكار قديمة أو تمنيات, وحتي ما علق فيها من أوهام متوارثة, لا يكون لها هدف إلا أن نستمر كما نحن, ننظر للدنيا وللعالم من نفس المناظير, ونكرر نفس المشاهد, حتي نمني النفس بالاستمرارية, بنفس الأفكار والأشخاص بل وطريقة الحياة, وتلك خطيئة كبري, لن تغفرها لنا الأجيال القادمة, لأننا شهدنا وعرفنا ولم نتحرك بل تمسكنا بعاداتنا المتوارثة, وسلوكنا القديم وكلماتنا المعتادة التي عرفنا أخطارها بل وكوارثها ولم ندرك الخطر.
بداية يجب أن نعرف وندرك أن الاحتلال غير قادر علي أن يعيش في العصر الراهن, إلا في ظروف الفوضي والتناحر وعدم قدرة المجتمعات والشعوب علي تنظيم نفسها, والعراقيون لن يكونوا ذلك الشعب فهم ليسوا صومالا, لا لأنهم ملائكة, ولكن لأنهم شعب قديم وله حضارة عريقة, ويملك إمكانيات اقتصادية هائلة, وجاءته الفرصة بعد إزاحة الديكتاتورية المتعصبة والحمقاء التي ذاق من ويلاتها كثير من العراقيين بالتعذيب وورثوا عنها فقرا واحتلالا ومديونية وتهميشا عميق الجذور, لن يسهل تجاوزه إلا بعمل صعب وشاق وبمساعدات دولية وتعاون عالمي ليس بسيطا بل ومركبا, له أهداف متعددة, قد نقبلها وقد لا نقبلها, ولكن العراقيين وحسب ما يبدو ولظروف عديدة, سوف يقبلون كل ما يعرض عليهم, وبل سوف يعملون به, لأنهم يريدون أن يكونوا يابان أو ألمانيا ـ الشرق الأوسط ـ وحتي لا يفهمني أحدا خطأ, فإن من صنع ألمانيا واليابان ليس الأمريكيون ـ الغزاة ـ رغم أنهم كانوا محتلين لهما, لأن التقدم والنمو والتطور والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة بدون فوضي أو قمع هو فعل وطني ذاتي, تقوم به الشعوب بعقل جمعي وموحد ومتفق عليه بين أطراف المجتمع وفئاته ككل, ولا يمكن بل من المستحيل أن يفرض علي الشعوب, إذا لم تكن تريده, وحتي تحقق الشعوب تلك الفضيلة, فإنها يجب أن تتحلي بالعلم وتكتسبه في مؤسساتها المختلفة, وتنبذ الفساد وتحاسب بقسوة, وتتخلي عن المحسوبية والفوضي, وتقدم الأكفاء والمنظمين القادرين, لكل المؤسسات عامة وخاصة فتعلو مجموعة من القيم, تراها تسود وتنتقل من الفرد إلي الجماعة الموحدة والفريق المتفق, وليس المتنافس, أو الذي يقتل بعضه البعض, ولحظتها يختفي بين الجماعة اللدد في الخصومة بل تصبح قيمة الحق واضحة ولا يعلي عليها, ويعرفها الصغير والكبير. وتقل الخصومات داخل العائلة, وبين المؤسسات والأفراد, لأن قيم التقدم والتحول تصبح معروفة وسائدة, ومن يخرج عليها لا يواجه بالقانون فقط, ولكن من المجتمع وليس بنظرة غاضبة فقط, بل بمواجهة حاسمة لا تسمح بتفشي الفساد أو الإهمال والضعف والتراخي والخروج علي القوانين, وعدم تنفيذ الأحكام, أو أن يحصل الكبير علي حقوق الصغير ويتجاوزها بسلطة أو محسوبية أو صوت عال
وأيا كانت الصورة, وحتي لا نذهب بعيدا, فإن ظروف العراق رغم المشاكل التي عاناها بالديكتاتورية والاحتلال, قد تكون أفضل بالنسبة لجميع العرب في المرحلة القادمة, لأن إمكانيات العراق الاقتصادية سوف تساعده علي اجتياز عقبة النمو واجتياز الوقت الصعب, لأنه صيد ثمين للشركات العالمية والعقول المتنافسة, وكلها ستأتي لتعمل وتكسب كما يكسب العراقيون, فليس في الاقتصاد الحديث من يكسب وحده, وسوف تتحول تلك المنطقة إلي نقطة جذب وإشعاع للشرق الأوسط, لن يكون لها مثيل, ومن يناطحني في ذلك فلينظر إلي برلين نقطة الضوء والأنوار التي أسقطت أوروبا الشرقية بل الاتحاد السوفيتي كله, ونحن نريد للعراق ذلك, كما نريده لكل شعوب الشرق الأوسط والمنطقة العربية, ولكن ضعاف النفوس والذين لا يريدون التحول, قد يضمرون السوء والشر لتفجير الصراعات العشائرية والمذهبية, وهذا لن يكون تأخيرا للعراق وحده, ولكنه سيكون استمرارا لمنهج الصوملة الذي يتصوره تنظيم القاعدة والتطرف بكل أشكاله انتصارا, وما نتطلع إليه للعراقيين هو تنظيم والعمل والتعاون ورفض الاحتلال في نفس الوقت.
وعلي الكل أن يساعد في هذا الاتجاه, فهناك طريق معبد للمنطقة العربية لتكون جزءا من الحضارة المعاصرة, مشاركا وفعالا وليس مهمشا ومريضا, يضمر السوء للآخرين, ولعلي أري تحولات أخري تحدث في الشرق الأوسط, وعلينا أن نشجعها حتي نخرج من شرنقة التخلف والضعف, ونخلق واقفا جديدا وتكون التحولات الكبري فيه نابعة من الأحداث الصعبة المريرة.
ونبدأ من مسارعة السودانيين بتجاوز الحرب الأهلية ونراها خطوة موفقة, كما نري في حركة المصريين والليبيين لإقامة منطقة اقتصادية حرة بين البلدين, وتنشيط التعاون الاستثماري والاقتصادي بينهما, خطوة كبيرة أيضا للتكفير عن عثرات الماضي, والدوران حول الشعارات سنوات طويلة, كما أري في تجاوز الفلسطينيين محن الموت والصراع, واستمرارهم في الإصلاح الداخلي وتكوين حكومتهم الجديدة, ولجم سلطة الفرد, أيا كانت مكانتها التاريخية, خطوة غير مسبوقة لمواجهة العدوان والانتصار عليه للوصول إلي حقوقهم الشرعية, وكشف تطرف العدو وعدوانيته وتعريته ليس أمام العالم ولكن أمام نفسه أولا.
نحن في عالم جديد, تغيرت فيه الأفكار والرؤي بل تجددت فيه أساليب المواجهة, وحتي نتطور لم يعد هناك وقت لنجامل أنفسنا أو نجمل أخطاءنا وخطايانا, لأنه إذا كنا قادرين علي مجاملة أنفسنا في هذا الاتجاه, فلن يتركنا عدو أو شريك لنا في هذا العالم, نمارس هذا السلوك السيء, وبالتالي يجب أن نأخذ أنفسنا بالشدة والتغيير المطلوب, ولا ننتظر من يأتي لي بحبيبي كما تقول الأغنية الشائعة, إذا كنت أعرف مكانه, فلا نتقاعس كسلا أو خوفا, خاصة إذا كنا لا نملك موارد كثيرة نستنزفها, أو وقتا طويلا نستهلكه, أو كنا حسب حالنا نملك أعدادا كبيرة من السكان, من كان مثلنا لا يملك ترف ضياع الفرص أو حتي التباكي علي الصعوبات, فنحن في عالم مختلف لن يرحم المتقاعسين.