انقلاب البرغوثي علي نفسه

لا أخفي إعجابي بتطورين مهمين, حدثا بعد رحيل الرئيس ياسر عرفات: الأول, هو أن الفلسطينيين لم ينقلبوا علي بعضهم, وقاموا بتنظيم أنفسهم, بانتقال سلس للسلطة, حتي الأحزاب والقوي الفلسطينية غير المنضمة إلي منظمة التحرير ظهرت متناغمة, غير متنافرة, معبرة عن شعب يسعي إلي التحرر. أما التطور الثاني فتمثل في وفرة وتنوع القيادات.
فبرغم أنهم جاءوا من حركة تحرر وطني, تحكمها منذ البداية شخصية, كاريزمية كعرفات, يضع كل المفاتيح في يده, فإن قبضته, علي ما يبدو, لم تمنع ظهور قيادات بديلة, ويرجع ذلك إلي طبيعة حركات التحرير وحيويتها.
وأبرز قيادتين في هذا الإطار هما محمود عباس( أبومازن), ومروان البرغوثي. فأبومازن ـ69 عاما ـ هو رئيس الوزراء السابق, عاد مرشحا لخلافة الرئيس الأول, بعد اختفائه ما يقترب من عام, وظهر مع مرض الرئيس, ثم وفاته, وكان الرجل قد تمت محاصرته ومحاصرة ما عرف بربيع أبومازن السريع(4 أشهر) عندما تولي منصب رئيس الوزراء من نهاية أبريل حتي بداية سبتمبر2003, فقدم استقالته وتم تعيين رئيس الوزراء الحالي أحمد قريع( أبوعلاء) خلفا له.
أما مروان البرغوثي ـ46 عاما ـ فهو أمين سر حركة فتح في الضفة الغربية, ويقضي عقوبة بالسجن تتجاوز مائة عام( أو خمسة مؤبدات) قضي حياته مناضلا, فقد كان زعيما للانتفاضة الأولي1987 ــ1992 وأحد قيادات انتفاضة الأقصي التي انطلقت في28 سبتمبر2000.
كلا القائدين وجهان لعملة واحدة, وبرغم اختلاف أسلوب كل منهما في العمل, فقد كانا من أبرز المنتقدين لمركزية السلطة, لأنهما بعيدان عن الفساد الذي استشري بين مسئوليها.
والأول يمثل الجيل الرائد, أما الثاني فيمثل الجيل الثالث, ومعا يبرزان نصاعة وجه النضال, وصراحة الاثنين لا ينكرها أحد, وعندما أرسل البرغوثي رسالة تأييد إلي محمود عباس, من محبسه في السجن الإسرائيلي, قلت مع الكثيرين: هذا هو الاحتياطي الاستراتيجي للقيادة الفلسطينية, سوف تحتاجه القضية يوما ما, وسوف يكون جاهزا ومؤهلا بحكم خبراته النضالية المتراكمة, وحب الناس له وثقتها فيه, ولحظتها أدركت مع رسالة البرغوتي أن حركة فتح الأصيلة, لا يمكن أن تنقسم, وأن الولاء للقضية فيها غلاب, فعلي رغم تنوع الآراء وحدتها, فإنهم ظهروا متفقين علي تحديد الأولويات.
والأولوية الآن لقيادة ذات ثقة, تتمتع ببعد نظر داخلي, قادرة علي أن تبدأ مفاوضات مع الطرف المحتل, ومع القوي الدولية للوصول إلي ترجمة الاعتراف الدولي, بحقوق الفلسطينيين في قيام الدولة, إلي واقع عملي, لأن الصراع بات طويلا وصعبا وشاقا, والمجتمع الدولي بأطرافه جميعا صار يطالب بسرعة الحل, فأمريكيا هناك اعتراف الرئيس بوش المبدئي بالدولة, وإسرائيليا هناك آخر مفاوضات في طابا وكامب ديفيد, والدماء الساخنة لضحايا الانتفاضة, والظروف المعيشية القاسية, تعبد طريق هذا الحل.
أما اليمين الإسرائيلي, بزعامة شارون, فهو في أزمة, ولن يخرج منها بدون حل مع الفلسطينيين, ويبقي اليسار هناك ضاغطا في هذا الاتجاه, أي أن هناك فرصا ثمينة, يجب أن ينتهزها الجميع, والفلسطينيون مؤهلون, وعليهم أن يمسكوا بكل ما يطرح من انسحابات, حتي ولو كانت محدودة, فالانسحاب من غزة وشمال الضفة وفك المستوطنات, إشارة إلي تصحيح مسار الشعب الفلسطيني.
والمؤهل لقيادة هذا الشعب, بحكم الخبرات المتراكمة, هو أبومازن, الذي لم يحصل علي الفرصة عندما كان رئيسا للوزراء, لأن العمل في ظل الزعامة العرفاتية كان مستحيلا, وانتهزت قوي اليمين الإسرائيلي الفرصة, وشرخت العلاقة بين الطرفين, لأن إسرائيل كانت تبحث عن وقت مستقطع للهروب من السلام, ووجدت الفرصة سانحة, واستفادت من المتغيرات, فعمقت شرخ التناقض الفلسطيني, وخرقت الهدنة الأولي التي شاركت فيها كل الفصائل بما فيها الإسلامية, ذلك لأن اليمين الإسرائيلي الشاروني, كان هدفه تصفية البنية التحتية, وهاهو اليوم, يجد نفسه عاجزا ومطالبا بالحل الأول الذي نعرفه جميعا, ولا بديل عنه, وهو التسوية والسلام, لأن القضية الفلسطينية غير كل القضايا لا يمكن حلها إلا باعتبارها قضية حق, ودون اتفاق الطرفين لن تصل إلي بر الأمان, فالقوة سوف تظل عاجزة عن تصفية الحق, كما أن الضعف يظل قوة إلي أن يصل إلي حقه.
ونعود إلي المنافسة في الانتخابات الرئاسية بين أبومازن و البرغوثي وأيهما أحق, وإلي من سيعطي الفلسطينيون أصواتهم, ونري أن القائدين يستحقان أصوات الفلسطينيين لتاريخهما النضالي, لكنني أعتقد أنه يجب أن يترك البرغوثي الفرصة, ويدعم أبومازن, علي أن يمتنع كل من له أي مصالح, كبيرة أم صغيرة, عن ممارسة هذه اللعبة الضارة, وحتي ولو استمرت هذه اللعبة, فإنني أعتقد أن مروان اتخذ قراره تحت ضغوط نفسية, أملتها عليه ظروف السجن القاسية, وغياب المعلومات الدقيقة.
ورغم ما يبدو علي السطح من الأضرار التي قد تجلبها تلك الثغرة, فإن حركة الانتخابات وقوة وشكيمة شعب محاصر تحت الاحتلال, سوف تكشف صلابته, وسوف يصوت إلي حركة فتح المتحدة, ويصعد من خلالها أبومازن مرشحها إلي سدة الحكم, حتي يكون قادرا علي التفاوض والوصول إلي حل عادل يرضي عنه الشعب, مع الاحتفاظ للفلسطينيين بقائدهم الاحتياطي الاستراتيجي مروان البرغوثي.
فلا تيأسوا من عبقرية شعب عندما يكون صاحب حق, يدافع عن أعدل قضية في الوجود.