رسالة شرم الشيخ لكل الأطراف

في الوقت الذي يدعو فيه بعض الثوريين, إلي إنقاذ إفريقيا وأوروبا, من كوارث الشرق الأوسط ــ قائلا يجب أن ندعهم يتقاتلون ــ ومن يبقي منهم نستطيع الاتفاق معه ـ تتجه السياسة المصرية الحكيمة لإنقاذ هذه المنطقة المؤثرة في مستقبل العالم من الاقتتال والتشرذم, وهي سياسة تتسم بروح وعقل يكشفان عن الإبداع والتجرد وحكمة السنين.
فعقدت في شرم الشيخ مؤتمرا دبلوماسيا عبقريا, جمعت فيه كل القوي الفاعلة في عالمنا المعاصر, وكانت مائدة البحث مخصصة لأزمة العراق, وتداعياتها الخطيرة علي مستقبل الشعب العراقي والمنطقة.
ورغم أن المؤتمر كان مخصصا لتلك القضية وحدها, فإن مصر ـ التي لا تنسي والحاضرة دائما في الخير ـ وضعت قضية فلسطين وشعبها أمام الحاضرين, بكلمة وزير خارجيتها في افتتاح المؤتمر, وجمعت أعضاء الرباعية الدولية, المسئولين عن تنفيذخريطة الطريق, لتذكرهم وهم يناقشون أزمة العراق, بأن فلسطين هي قضية المنطقة, ومركزيتها لا يمكن الفكاك منها, علي صعيد كل الكوارث والحروب من الإرهاب إلي العراق, وحتي في ديمقراطية المنطقة التي يجب أن تبني علي الحوار والأخلاق, وعلي أكتاف أبنائها, وليس بالدماء والقهر وضرب المقدسات.
ومؤتمر شرم الشيخ, يعكس قدر مصر, ومحوريتها ودورها الإقليمي وقدرتها السياسية, ولكن كثيرين لايريدون أن يعملوا أو يتركوا الآخرين يعملون, فراحوا يستخدمون لغة خطيرة, يشوهون بها أعمال الخيرين, ويحيطونها بشبهات تعكس خيالهم المريض, وتلك لحظة عارضة, يجب ألا تكون مؤثرة, ولا أريد التوقف عندها, فما يبقي هو النتائج, وجلالة الأعمال.
عقد المؤتمر الدبلوماسي علي مستوي الوزراء, ولم يتأخر أحد, فمصر هي الرئيس, والقضية خطيرة, ووزراء الدول الصناعية الثماني الكبري, والأعضاء الدائمون في مجلس الأمن حاضرون فانضمت الصين, والعراق طبعا, ودول جوارها, والمنظمات الدولية, ممثلة في الأمين العام للأمم المتحدة, وأمناء جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والاتحاد الأوروبي.
وكان المؤتمر رسالة سياسية قوية من المؤثرين في عالمنا إلي كل الأطراف, وفي مقدمتهم الأمريكيون, تقول إن المجتمع الدولي بقواه الحية, يجب أن يكون طرفا رئيسيا في أزمة العراق, التي أعقبت الحرب, فإذا كانت أمريكا قد انفردت بقرار هذه الحرب والاحتلال, فإن صياغة مستقبل العراق ومنطقة الخليج, باتت قضية عالمية, وليست أمريكية, وكانت تلك رسالة المؤتمر البليغة.
فالمؤتمر جري الإعداد له قبل أن يظهر أسلوب أمريكا في حل أزمتها في مواجهة الرفض العراقي للاحتلال, وهو الأسلوب الذي اتسم بالقمع العسكري لأبناء الفلوجة, وتدنيس المساجد وقتل المدنيين, والاستخدام المفرط للقوة بشكل مخز للقوة العظمي, خالقا الكراهية والعداوة بين الشعوب, وبين الطوائف داخل العراق, بتمييزه في المعاملة بين هذه الطائفة وتلك.
لكن بيان شرم الشيخ جاء ليقطع الطريق علي هذه السياسة, ويرفض استمرارها في باقي المدن العراقية بإدانة ورفض الاستخدام المفرط للقوة, وووضعه علي نفس مستوي عمليات الإرهاب, والبيان لم يدع إلي ذلك فقط, بل وضع أسلوبا عمليا لمواجهة الرفض الشعبي للاحتلال والقمع العسكري, وذلك باللجوء إلي إجراء الحوار الخلاق, بين الطوائف العراقية, واحترام حقوق الإنسان, طارحا عقد لقاءات بين أطراف اللعبة السياسية هناك لحض الجميع علي المشاركة في الحل السياسي.
وهذه هي البداية ولن تكون نهاية الطريق, ولكنها ستكون البداية لوضع الضمانات لكل الأطراف والطوائف للمشاركة السياسية في ظل وضع قانوني مستقر ومؤسسي يحمي الجميع.
فالخطر هنا ليس العملية السياسية, ومن يفوز في الانتخابات, بل تكمن المخاطر في الصراع والحروب الأهلية والطائفية, فهي تهييء المناخ لاستمرار الاحتلال, وقمع إرادة الشعب العراقي, وزرع الفتن الدينية والطائفية بين ما هو سني وشيعي وبين ما هو عربي وكردي وتركماني.
أما الرسالة الأخري, فكانت للحكومة العراقية, ورئيسها إياد علاوي, وهي أننا ندرك ما تقوم به, وسوف تتم المساعدة في إنجاح مهمتك السياسية, فنحن نفهم رفضك للانضواء تحت عباءة قوي التطرف, سواء داخل أمريكا أم في العراق, لكن لا تقع فريسة لإحداها, فقد صعدت لرئاسة الحكومة ـ المؤقتة, باعتراف الأمم المتحدة, لأنك لم تسلم بما يدفعك إليه اليمين المتطرف في حكومة بوش, وبالتالي يجب ألا تندفع معه في الحل العسكري المفرط, لأنه ليس حلا, بل سيضر بمستقبل العراق, لأن الديمقراطية يجب ألا تكون علي جثة طائفة أو في وسط بحار من الدماء, فالمتطرفون علي مختلف المشارب يريدون أن يحملوا طائفة بعينها مسئولية الحرب, وخطايا صدام حسين, وهم جميعا منها براء, فمثلما أدركت أن البعثيين أو حتي القوميين العراقيين لا يتحملون جريمة صدام, فعليك أن نعمل علي ألا يدفعوا ثمنها, بل يجب أن يشاركوا في بناء مستقبل العراق.
فالسنة العراقيون يجب أن يطمئنوا, وأن يجري حوار خلاق معهم, ففيهم أبناء القبائل والعشائر, الذين سكنوا العراق عبر الهجرات المتتابعة من دول الجوار, وغيروا الخريطة الديموجرافية, وبالتالي نشأت علاقة تاريخية يجب أن تكون لها حساباتها في العملية السياسية, فأهل القبائل والعشائر لهم حقوقهم التاريخية, وحصلوهم علي ضمانات وحقوق في مستقبل الدولة سيكون طريقا للاستقرار, لأن بناء الديمقراطية إذا تم الآن بأسلوب طائفة معينة وصلت إلي سدة الحكم, وحصلت علي مكاسب الدولة العراقية وحدها, بمساعدة قوات الاحتلال, سيعطي ذلك المبرر الموضوعي للانقلاب علي الحل السياسي المرتقب في أقرب فرصة, وستكون هذه الحالة بذور فتنة زرعها الاحتلال في العراق, ولا أحد يريد ذلك لهذا القطر العربي الشقيق.
إن مؤتمرا بحجم مؤتمر شرم الشيخ, وإلمامه بالقضية العراقية, بكل أبعادها السياسية, والدينية والإثنية المتشابكة, ووضعه هدفا, هو حماية العراق, حتي يخرج سليما معافي من كارثة الديكتاتورية والحصار ثم الاحتلال, يعتبر عملا سياسيا بارعا, سوف يحسب لتاريخ الدبلوماسية المصرية, ودورها في حماية العرب والمنطقة العربية.