مقالات الأهرام اليومى

الفلوجة رسالة إلي قمة شرم الشيخ

حدثت مجزرة الفلوجة الثانية‏,‏ وانتهت‏,‏ ليس بانتصار أمريكي‏,‏ كما أراد المقتحمون‏,‏ إنما بنكسة كبري جديدة‏,‏ أخلاقية وسياسية‏,‏ للولايات المتحدة الأمريكية‏,‏ وهي مذبحة تصور مرتكبوها أنها مقدمة للانتخابات المنتظرة في يناير للحصول علي الشرعية المفتقدة في كل ما يحدث بالعراق‏.‏
فإذا بالأحداث تجرف القوة العظمي الوحيدة في عالمنا المعاصر‏,‏ لتقاتل من منزل لمنزل‏,‏ فأي صورة مهينة للعسكرية‏,‏ وهي علي هذا الوضع المشين‏,‏ فالجنود الأمريكيون يقاتلون في المساجد ويقتلون الضعفاء بلا رحمة‏,‏ ويدنسون المقدس في الأديان‏.‏

فماذا ستقول أمريكا لشركائها في قمة شرم الشيخ المقرر عقدها يومي‏22‏ و‏23‏ من الشهر الحالي‏,‏ وماذا ستقول الحكومة الانتقالية‏,‏ هل ستتكرر الأسطوانة المشروخة عن الإرهاب والتطرف الذي يسكن الفلوجة؟
أعتقد أن استباق الأحداث بهذه المجزرة‏,‏ وتصريحات القادة العسكريين‏,‏ ومسئولي الحكومة المؤقتة‏,‏ بالتباهي بأعداد القتلي‏,‏ يشير إلي أزمة كبري في الضمير‏,‏ ومأساة أخلاقية لا مثيل لها إلا في العصور الوسطي‏,‏ فالجريمة تتعدي حدود التدمير‏,‏ ولعلي أقول للحكومة الانتقالية ولأمريكا إن الصبر والصمت اللذين يلفان المنطقة العربية هما الخطر بعينه‏,‏ لأن ذلك يعني أن حالة الكراهية والعداوة تدخل منعطفا جديدا‏,‏ ستتحول فيه إلي وقود للإرهاب‏,‏ يدفع العالم كله إلي حالةليس لها نظير من قبل‏,‏ حالة من الفوضي والتوتر‏.‏

فملاذات الإرهاب والتطرف‏,‏ المقصود إزالتها من المدن التي يقاتلونها‏,‏ ستتحول إلي حالة من العداء والغضب تسكن القلوب والعقول‏,‏ والأخطر أن الأمريكيين سيتحملون‏,‏ أمام الضمير الإنساني والعالمي‏,‏ مسئولية فتح نيران جهنم علي العالم في أخطر منطقة بها المخزون الاستراتيجي للنفط‏,‏ لأن الصراع لن يمتد مع القوة الكبري فقط‏,‏ ولكنه سيمتد إلي محاولة توريط أبناء المنطقة في صراع طائفي مقيت سني ــ شيعي‏,‏ فالغضب الذي يشعر به السنة‏,‏ والثأر الذي يكتنف عقولهم‏,‏ لا يبدده ادعاء أن المقصود هم الإرهابيون وحدهم‏,‏ لأن الصمت المريب والمعاملة المزدوجة للمراجع الدينية في معركة الفلوجة المخزية‏,‏ فتح الباب لكثير من الشكوك والظنون حول مستقبل العراق‏,‏ وما يخطط للمنطقة من أهداف مريبة‏,‏ يدخل فيها تمكين طوائف علي حساب أخري‏.‏
ومعركة الفلوجة لم تكن منعطفا أمريكيا مثيرا فقط‏,‏ ولكنها كانت بداية لانعدام الثقة بين كل الأطراف‏,‏ وحتي يكون مؤتمر شرم الشيخ ناجحا‏,‏ يجب أن يقول الجميع للأمريكيين‏,‏ بلا خوف أو تردد‏,‏ إنهم فشلوا‏,‏ بل هزموا سياسيا في العراق‏,‏ وأنه لا معني للانتصار العسكري لأن العراق لم يكن مرشحا لهزيمة أمريكا أو مقاومتها‏.‏

وإذا كانت حرب بوش الأولي في الخليج‏,‏ في بداية التسعينيات‏,‏ إعلانا عن القيادة الأمريكية للنظام العالمي‏,‏ وفرض هيمنتها عليه بالكامل بعد سقوط الاتحاد السوفيتي‏,‏ والكتلة الشرقية‏,‏ فإن حرب بوش الثانية‏,‏ في المدن العراقية في عام‏2004,‏ هي بداية لتفكيك هذه الهيمنة‏,‏ بل بداية الفشل بعينه‏,‏ فمهما تحقق من انتصارات عسكرية فهي في مضمونها وهمية‏,‏ لأنه ليست هناك قوة عسكرية تواجه أمريكا في العراق‏,‏ ولكن المواجهة مع المدنيين والبسطاء‏,‏ فالتدمير يطال المباني والمدارس والجوامع‏,‏ وعلي الجميع أن يطالب الآن بأن تتوقف حرب المدن‏,‏ ولا تتسع عمليات القتل الجماعي وإضافة مقابر جماعية جديدة‏,‏ حتي لا يزداد الفشل الأمريكي‏,‏ وتزداد الأساطير اتساعا‏,‏ كما يجب أن يتوقف الأسلوب الأمريكي بالتخفي وراء إياد علاوي‏,‏ وتحميله مسئولية الفشل‏,‏ لأن الكل يعرف أن علاوي وجماعته لا يملكون شيئا من القرار‏,‏ ولا يحاربون‏,‏ فالحرب يديرها الأمريكيون‏,‏ وهم الذين يدنسون الجوامع‏,‏ ويقتلون البسطاء‏,‏ الكراهية في هذه الحالة لن تطال علاوي وجماعته فقط‏,‏ ولكنها ستطال كل الغرباء‏,‏ والأمريكيين الذين يحاولون الاستيلاء علي العراق‏.‏
ولنتذكر أننا نريد أن نضع حدا للحروب في المنطقة‏,‏ ولا نريد اتساعها بين العرب وغيرهم‏,‏ فمثلما كانت حقبة صدام السياسية فشلا ذريعا‏,‏ وقطيعة مؤلمة في علاقة العرب بالأكراد‏,‏ فإن حقبة الاحتلال الأمريكي تحاول الآن زرع فتنة قوية بين العرب والإيرانيين المهاجرين إلي العراق تحت مسميات شيعية‏.‏

إن اتساع رقعة الحروب في العراق بعد سقوط صدام وانهيار نظامه‏,‏ والوجود الأمريكي غير المشروع‏,‏ والفشل المستمر سوف يكون فاضح الثمن‏,‏ فهناك‏20‏ مدينة ينتظرها نفس مصير الفلوجة‏,‏ فلا يغيب عن بال أحد أن الموصل الآن أصبحت عاصمة المقاومة‏,‏ ولن تفرح القوة التي استأسدت علي الفلوجة بنتيجة المعركة الأخيرة‏.‏
فكيف سيتصرف الأمريكيون أمام هذه الأخطار التي صنعوها بالحمق والأخطار الكارثية؟‏!‏

ومن هنا ستكون المكاشفة السياسية في قمة شرم الشيخ شرطا أساسيا للخروج من هذا المأزق الكارثي‏,‏ ليس لأمريكا وحدها‏,‏ ولكن للعالم كله‏,‏ فلنأخذ نتائج حرب الفلوجة مثالا‏,‏ وما ينتظر الأمريكيين من كوارث‏,‏ ولنسلم القرار إلي المجتمع الدولي والأمم المتحدة قبل فوات الأوان‏,‏ وقبل انفجار الأوضاع في المنطقة‏,‏ ونطالب بانتهاء الاحتلال‏,‏ ونتجه إلي الحل السياسي‏,‏ مع اعتبار أن الانتخابات ليست هي الحل‏,‏ فالرؤية الواقعية وتغليب مصالح العراق علي المصلحة الخارجية أو الطائفية هو النجاة الحقيقية للبلد والمنطقة ككل‏.‏
فقد فجر الاحتلال والفراغ السياسي في العراق طموحات غير مشروعة لجماعات خارجية مهدت لهذا الاحتلال‏,‏ وهناك أقليات إيرانية هاجرت عبر سنوات متتابعة لسرقة أبناء الشعب والقبائل العراقية‏,‏ أصحاب البلد الأصليين‏,‏ فلا تفتحوا أبوابا جديدة يدخل التطرف والإرهاب الآخر منها إلي هذه المنطقة المنكوبة‏.‏

ولتتعلم أمريكا بأن تدخلها بالقوة في منطقة‏,‏ تجهلها‏,‏ ولا تعرف أسرار الحياة بها‏,‏ سبب كوارث‏,‏ وفتح طريقا للحروب والإرهاب قد لا ينتهي أبدا‏,‏ ومسئولية القوة العظمي ليست خلق حروب‏,‏ ولكن تجفيف منابع هذه الحروب‏,‏ وحل الأزمات المستعصية بين الأقليات والأديان‏.‏
فهل تستطيع أوروبا ودول المنطقة مكاشفة الأمريكيين بتلك الحقائق في قمة شرم الشيخ‏,‏ إذا حدث ذلك فستكون قمة النجاح‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى