مقالات الأهرام اليومى

رسالة عرفات الأخيرة قبل رحيله

رحل من صنع وصاغ ماضيا لأعدل قضية سياسية وإنسانية‏,‏ يشهدها عالمنا المعاصر‏,‏ فياسر عرفات‏,‏ وقضية شعب فلسطين امتزجا معا‏,‏ وخلقا أسطورة الرئيس الرمز‏,‏ وهي معادلة محكمة‏,‏ لا يمكن أن تكون من صنع إنسان‏,‏ حتي ولو كان بطلا تراجيديا‏,‏ متخصصا في غزل أحداث الزمن وعبره‏,‏ ليصنع منها التاريخ الذي عرفناه‏,‏ فمن صاغ وحاك أسطورة عرفات أبوعمار؟ هل تقول بعض عقولنا الملوثة إنها المؤامرة‏,‏ لأن من لا نعرفه يصنعه عادة الآخرون‏,‏ ومن هم أقوي وأكثر قدرة؟‏!‏
وأقول ردا علي من يفكرون بهذه الطريقة إن الأسطورة وقصتها صنعها ضمير الشعب ووجدانه الذي لا ندرك كنهه ومصادر قوته‏,‏ وإن كنا نعرف أن صاحب الحق والحقيقة‏,‏ المتماسك والقوي داخليا‏,‏ لا يعدم الوسيلة للوصول إليها‏.‏

والشعب الفلسطيني من هذا الطراز‏,‏ فقد صنع قائده وعلمه المقاومة إلي حد الانتحار‏,‏ والتفاوض بالسياسة وقواعدها‏,‏ حتي لو كانت بلا أمل‏,‏ فانتصر القائد‏,‏ رغم أنه لم يذق حلاوة النصر‏,‏ وهزم عدوه الذي لم يهزم إطلاقا في معاركه معه‏,‏ وتلك قمة المعادلات والتناقضات‏,‏ ولكنها الصراعات العميقة‏,‏ التي لا تقودها مسارح العمليات وحدها‏,‏ إنما معاركها وتداخلاتها‏,‏ تصنع من أشياء خارج المنطق‏,‏ وبعيدة عن السياق‏.‏
ولعل كل من شاهدوا الرحيل المدوي للرئيس عرفات‏,‏ قد تساءلوا عما يحدث أمامهم‏,‏ بغموضه وعمقه الظاهر للعيون القادرة علي أن تسمع وتري رئيسا للسلطة وزعيما للشعب‏,‏ محبوسا في بيت ومحاصرا لمدة‏3‏ أعوام‏,‏ في مدينة معزولة صنع اسمها من وجوده بها‏,‏ يخرج فجأة من بيته مريضا‏,‏ كما يمرض البشر‏,‏ ولم يعرف عنه أنه يهمل في صحته‏,‏ وتنقله الطائرة إلي عمان‏,‏ ثم إلي باريس‏,‏ يتحدث للجميع‏,‏ ومع الجميع‏,‏ وفي‏5‏ أيام يموت ويرحل مثل كل البشر‏.‏

ولكن هذه الأحداث العادية‏,‏ أصبحت مفاجئة‏,‏ مع أن الموت عادي‏,‏ لكنه أصبح حكمة‏,‏ ثم تحول إلي رسالة‏,‏ فأوروبا‏,‏ عبر زعيمتها فرنسا ورئيسها شيراك‏,‏ تودع في جنازة مهيبة رئيسا لشعب وممثلا لقضية‏,‏ حاول الكثيرون أن يطمسوها‏,‏ فإذا به وهو يموت يصنع حاضرا‏,‏ ويؤكد حقيقة ويعيد الاعتراف بقضيته وشعبه‏,‏ مما جعل أوروبا تقول أمام العالم كله‏,‏ إن هناك رئيسا فلسطينيا‏,‏ وشعبا فلسطينيا‏,‏ وهذا الاحترام وتلك الصورة التي صنعت في باريس‏,‏ هزت تل أبيب‏.‏
ففي ساعات قليلة‏,‏ أغلق عرفات ميتا ملفات وأياما صعبة عاشها محاصرا‏,‏ لا يسمع عن العالم ولا يسمع عنه العالم‏,‏ إلا عبر تليفون‏,‏ ولكن الموت وأحداثه ألغي وتجاوز الحصار ومراراته‏,‏ وأكد قدرة القضية الحقيقية علي الحياة والاستمرار وصنع الأحداث الجليلة‏,‏ ثم ينقل عرفات إلي القاهرة‏,‏ ليرسل العرب عبر مصر ورئيسها حسني مبارك رسالة أخري إلي العالم أكثر قوة ووضوحا‏,‏ لكل من يسمع ويري بالصوت والصورة‏,‏ فزعماء المغرب العربي كلهم بلا استثناء ينضمون للمشرق العربي‏,‏ ليقولوا إن المغرب ليس بعيدا‏,‏ ولكنه جزء من عالم متحد‏,‏ رغم تجزئته وتفرقه‏,‏ ويعترفون جميعا من جديد بأن قضيتهم المركزية هي فلسطين‏,‏ وزعماء المشرق كلهم حاضرون معترفون بالقضية وبالزعيم‏,‏ من اتفق معه ومن اختلف‏,‏ من أحبه‏,‏ ومن اعترض عليه‏,‏ لكن الحقيقة بينة وقوية وساطعة‏,‏ فزعيمة الخليج السعودية حاضرة وممثلة بأميرها‏,‏ ومن غاب منهم فهم الهامشيون لأن تأثيرهم في عالمنا محدود وعابر‏,‏ حتي لو كان مؤثرا للحظة‏.‏

وهكذا هم العرب يخيل للرائي أنهم مغيبون‏,‏ فإذا بهم قادرون في اللحظة المناسبة علي القول البليغ والمؤثر‏,‏ ثم كانت الرسالة الأخيرة من قلب فلسطين‏,‏ وبطلها هذه المرة هو الشعب نفسه‏,‏ يحمل رئيسه وقائده‏,‏ مؤكدا لكل من حاول أن يفصل بينه وبين الشعب‏,‏ أنه متحد معه‏,‏ في ملحمة شعبية حولته فجأة الرئيس الأسطورة والرمز بلغة الغربيين‏,‏ إلي قديس‏,‏ وبلغتنا الحبيبة إلي أيقونة للقضية وللشعب‏.‏
ألا يشكل هذا ردا موضوعيا وبليغا فلسطينيا وعرفات‏,‏ علي كل ما قيل في سنوات حصار عرفات وقضيته‏,‏ لمعاقبته علي الانتفاضة الثانية للشعب الفلسطيني‏,‏ التي كانت الحدث الرئيسي والمتكرر يوميا‏,‏ منذ اندلاعها قبل‏4‏ سنوات وحتي الآن‏,‏ فقد كانت انتفاضة شعبية عفوية‏,‏ لا يتحمل مسئوليتها عرفات أو غيره‏,‏ ولكنها نتاج الظلم المزمن والمتكرر للشعب الفلسطيني‏.‏

عرفات ميتا كان خطرا‏,‏ لأنه‏,‏ وفي لحظة عدم الوجود البيولوجي‏,‏ كان ينهي أحداثا ووقائع صنعت التاريخ‏,‏ ولكنه عبر الدراما والتطورات والأحداث كان برمزيته وبتحركه الواسع‏,‏ يكرر حركته ودوره وحياته بين العواصم والمدن ليصنع الحاضر الذي سوف يبني عليه المستقبل‏,‏ كان لا يتوقف ولا يهدأ ليقول للجميع‏,‏ هنا وهناك إن شعبا يوجد اسمه الفلسطينيون‏,‏ وأرضا فلسطينية‏,‏ حقيقة لا خيالا أو أسطورة‏,‏ سطا عليها الأقوياء في غفلة من الزمن‏,‏ ولكنهم رغم ضعفهم وقلة حيلتهم‏,‏ فإنهم وهم الضعفاء أقوياء بالحق والحقيقة‏,‏ وسوف نثبت ذلك للجميع‏,‏ وصارت قضية عادلة صنعت أسطورتها ورجلها حيا متحركا أو محاصرا أو مريضا أو جثمانا تحركه قضيته العادلة‏,‏ ويلتف حوله الشعب الفلسطيني والعربي‏.‏
ألا تحرك هذه الأحداث العقلاء من الإسرائيليين والمجتمع الدولي‏,‏ ليقرأوا الحقيقة التي يتجاهلونها وهي أنهم أمام شعب يستحق دولة كريمة وقوية‏,‏ ويتوقفوا عن العناد وتغييب ما يعلمونه من الحقائق‏,‏ ويسلموا للفلسطينيين بحقوقهم المشروعة‏,‏ ويسارعوا قبل أن تتحول الدائرة وحركة مسار القضية إلي المجهول‏,‏ وهم ونحن لا نستطيع تقدير مساراته أو معرفة أحداثه‏,‏ لأنه سيكون خارجا عن الزمن‏.‏

ألا تدرك القوة الباغية في عالمنا المعاصر‏,‏ كل تلك الرسائل وقدرة هذا الشعب الفلسطيني والعربي‏,‏ لتعرف أن كل القوة والأموال والتكنولوجيا والتحديث وعظمة وأبهة القوة العظمي لا تنتصر علي الحق رغم ضعفه‏.‏
لو كنت منهم أو وضعت نفسي مكانهم‏,‏ لسلمت بحقائق الحياة البسيطة‏,‏ قبل أن تتغير دورة الزمن‏,‏ والتقطت رسالة عرفات الأخيرة في رحيله المدوي‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى