زايد.. والحكمة الأخيرة

برحيل الشيخ زايد فقدت المنطقة العربية أحد مراجع الحكمة السياسية, ولعل آخر تجليات هذه الحكمة ظهر في الانتقال السلس للسلطة, وسرعة اختيار خليفته, وتكاتف المؤسسات السياسية, داخل إمارة أبوظبي, و الدولة الاتحاديه
وشكل هذا الانتقال رسالة واضحة إلي العالم, تؤكد الثقة بمستقبل إحدي دول الخليج المهمة, وتؤكد أيضا أن تماسكها دخل مرحلة متطورة, تترسخ فيها قوة الدولة ومؤسساتها في وقت صعب إقليميا, تنهار فيه بلاد كبيرة, وتسقط مؤسساتها وبنيتها الأساسية تحت مطارق الاحتلال أو الضغوط الخارجية.
وكانت المحطة الأخيرة قد أشارت إلي أن عملية بناء المؤسسات والإنسان الإماراتي, التي قادها الشيخ زايد عبر أربع حقب متتالية, متقدمة للغاية, مثلما كانت حركة بناء الدولة الحديثة نموذجا فريدا, جمع ما بين العصرية وما بين الجذور الثقافية, فتحولت البداوة إلي مدنية واثقة في جذورها الممتدة في صورة بارعة, فهي لم تتخل عن شفافيتها أو حتي زيها التقليدي, بل جعلته براقا وجاذبا للآخرين, فأكدت أن بساطة الصحراء وشظف العيش فيها أنجب حكمة وبراعة في الإدارة والحكم, ليس هذا فقط بل أنجب فلسفة سياسية متماسكة وقوية, جعلت رئيسا مثل جورباتشوف آخر زعيم للاتحاد السوفيتي السابق, عندما هبط في الإمارات للمرة الأولي, وهو في طريقه من المطار إلي مقر إقامته أن يقارن ما بين الإمارات وروسيا, فقد وجد من حوله مدينة منسقة, وحدائق منتشرة, فقال لزايد: حكمكم بدأ بدولة جرداء وصحراء قاحلة, فحولها, في سنوات قليلة, إلي دولة عصرية, بإنسان جديد, فصارت الصحراء خضراء, أما الشيوعيون فقد حصلوا علي دولة غنية ومتطورة وإنسان أوروبي, فحولوها, في سنوات, إلي صحراء قاحلة بل ودمروا الإنسان فيها.
هذه المقارنة الدقيقة تثبت أنه ليس بالثروة النفطية تطورت الدولة الإماراتية, فروسيا دولة بترولية كبري, وإمكاناتها الاقتصادية وأدوارها السياسية متعددة, ولكن الفارق الذي ذكره جورباتشوف يؤكد أن السياسات الصحيحة هي صانعة التطور والنمو.
وفي سياسة وحكمة الشيخ زايد توجد مقارنات كثيرة, فلم يكن البترول هو النعمة الوحيدة, فكثيرون لديهم مثل هذه الإمكانات, ولكنهم لم يحققوا ما حققته دولة الإمارات من تقدم وبناء إنساني, بل ووحدة في تجربة بناء دولة فيدرالية ووحيدة في المنطقة العربية, فقد بنت وحدتها بالإقناع وليس بالقوة, وقدمت نموذجا للوحدة في ظل التنوع, واحترام التفرد الشخصي, فأبوظبي عاصمة للصناعة والنفط, ودبي عاصمة الاستثمار والسياحة, ويضربون الأمثال في قدرتها علي جذب الشركات العالمية, بحركة البناء وتقدم النموذج البنائي والتسويقي فيها, الذي غير المناخ وجعل السياحة إلي مدينتهم صيفا وشتاء, دون اعتبار لقسوة الحرارة, أما إمارة الشارقة فقد أصبحت الآن عاصمة للثقافة ونموذجا تعليميا للجامعات العالمية, وتبقي الإمارات الصغيرة الأخري تتقدم وتتنوع اقتصادياتها أيضا.
وهناك جانب آخر وهو أنه بالرغم من أهمية التقدم الاقتصادي فإن الإمارات(3,5 مليون نسمة) صار معظمها أو كلها تقريبا طبقة وسطي, فالكل يملك جزءا فيها, وهم شركاء في مؤسساتها الاقتصادية, وليس هناك إماراتي واحد لا يملك بيتا, ولذلك فإن الشيخ زايد هو الحاكم الوحيد عالميا الذي هزم الفقر, وجعل الشعب كله شريكا في الملكية, حاصلا علي نصيب عادل في ثروة بلاده.
فتجربة الشيخ زايد في حكم الإمارات بالغة الثراء, وتحتاج إلي دراسة عميقة, لأنه كان نموذجا في التحولات الكبري, التي يجب أن تتفحصها كل بلاد المنطقة الآن, وتتعلم منها كيف تخرج من الأزمة وتبني الدولة الحديثة, تلك الدولة التي ينبغي أن يشعر كل أبنائها بالرضا والحكم العادل.
لكن هذا التطور علي أهميته يلقي علي خلفائه بأعباء ثقيلة, فهم مطالبون باستمراره وتحديثه, وهذا لن يتحقق لهم إلا بثقافة المشاركة, علي أن يتحمل الجميع المسئولية للحفاظ عليه.
ولا يمكن لأحد أن يكتب عن الشيخ زايد دون أن يشير إليه كعروبي غيور, يدرك معني التنمية الإقليمية للمنطقة ككل, فالرجل كان يبني ويعمر في كل بلادها دون استثناء, ففي مصر بصماته واضحة وقوية, فقد عمر في قناة السويس بعد الحرب, ومد الترع للزراعة في سيناء وتوشكي, وكان يدفع ويشجع المستثمرين العرب والإماراتيين علي الاستثمار في مصر, ولم يشعر أي مصري يعمل في الإمارات بالتفرقة, بل شعر الجميع بأن عدالة زايد وحكمته امتدت إليهم, كما استثمر في المغرب العربي وفي الشام وفي اليمن بني سد مأرب, ولم ينس أنه من القبائل التي هاجرت واستوطنت صحراء أخري, بعد انهيار هذا السد في الحقب القديمة.
أما مبادراته السياسية فلها موقع خاص, ونتذكر أنه في السنوات الأخيرة فعل المستحيل حتي لا تقع الحرب ضد العراق, وسوف تتذكر الأجيال المقبلة مبادرة اللحظة الأخيرة في قمة شرم الشيخ قبل الحرب الأمريكية بأيام, عندما طالب صدام وجماعته بالخروج, حفاظا عليهم وعلي العراق, فقد كان يصارح ولا يزايد ولم يجد آذانا صاغية, لكن التاريخ سيقول إنه حاول, كما حاول من قبل إنهاء الحصار علي شعب العراق, وخلق ثقافة للتسامح معه وإعادة تأهيله في المنطقة.
أعتقد أنني لا أكتب مرثية في الشيخ الراحل, ولكنني أتذكر محطات من حكمته السياسية, والتي أجدها متماسكة مثل الضفيرة المغزولة بإحكام, لأن زايد الذي دعم القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني, هو نفسه الذي رفض مقاطعة مصر بعد توقيع اتفاقية السلام, لأنه اكتشف ببصيرته أنها سياسة المستقبل.
ولكنني أطالب بإعادة دراسة سياسة الشيخ الحكيم الراحل, ولنكن أوفياء لأعماله ودوره التاريخي, فمازلنا في حاجة إلي أسلوبه في الحكم والبناء والتأسيس, فليتقدم بعض السياسيين والخبراء لإنشاء مؤسسة سياسية عربية وعالمية تحمل اسم الشيخ زايد, وتشرح طريقته في العمل والتفكير, لأن الصحراء والبداوة أنجبت عبقرية سياسية فلنحافظ عليها وندفع الآخرين إلي السير فيها.