مقالات الأهرام اليومى

عرفات وقضية فلسطين

كل الذين راهنوا علي السلام بغياب عرفات مخطئون‏,‏ فالضغوط الأمريكية‏,‏ التي وصلت إلي مقاطعته وتهميشه‏,‏ جاءت كلها كأخطاء لهذه السياسات إلي حد الإضرار بمصالحها‏,‏ وحتي اليمين الإسرائيلي المتطرف تصور أنه‏,‏ بحبس عرفات برام الله‏,‏ وتحميله مسئولية الانتفاضة الفلسطينية‏,‏ يهرب من التزامات السلام الإقليمي‏,‏ وينقل الكرة إلي الملعب الفلسطيني‏,‏ ليصبح متفرجا‏,‏ فماذا يفعل عرفات والفلسطينيون في كرة اللهب هذه؟ فقد تناسي هذا اليمين أن نيرانها تأكلهم أيضا مثلما تؤثر في الفلسطينيين‏.‏

أما المنظمات الفلسطينية فقد تصورت أنها بالحروب المتبادلة والقمع الإسرائيلي‏,‏ الذي فاق التصور من الممكن أن تحجم من نفوذ عرفات في النضال والسياسة‏,‏ وتعطيها مزيدا من المكانة‏,‏ ومن الأفضل جزءا كبيرا من السلطة المرتقبة في الدولة العتيدة‏,‏ فكل هؤلاء تزاحموا علي وجبة شهية‏,‏ ولكنها لم تنضج بعد‏,‏ وكان الوحيد والخبيث الذي يعرف أبعاد الحقيقة‏,‏ بحكم تمرسه‏,‏ هو الرئيس عرفات‏.‏

وحتي لا نكون مخطئين‏,‏ فإن مصر ورئيسها حسني مبارك‏,‏ كانا يعرفان الحقيقة‏,‏ وهي أن السلام الفلسطيني ــ الإسرائيلي في حاجة إلي عرفات بحكم قدرته علي قراءة القضية الفلسطينية‏,‏ ليس لأنه مركز الثقل الفلسطيني بقدر ما هو المتوسط الحسابي المعقول‏,‏ الذي من الممكن أن تتلاقي عند نقطته الكثير من القوي المؤثرة والفاعلة فلسطينيا وعربيا بل وعالميا‏,‏ في قضية معقدة حتي درجة الاستحالة‏,‏ وعرفات رقم صعب وليس من السهل تجاوزه‏,‏ وخطورة دوره جعلت ورقته مخيفة‏,‏ فترددت إسرائيل‏,‏ رغم عدائها له في حرق أو تبديد هذه الورقة‏,‏ بل إن أمريكا ومؤسساتها العاقلة تعرف أن لعرفات دورا مؤثرا‏,‏ ولكن عن أي أمريكا نتحدث؟ عن أمريكا عندما تكون متحررة من عقد الخوف والضعف والتردد من نفوذ اليمين سواء داخلها أم في إسرائيل‏,‏ وفي السنوات الأخيرة غابت الأولويات الأمريكية‏,‏ فكانت فترة ضرب القضية الفلسطينية‏,‏ فاستغلتها كل القوي في إنهاك الرئيس عرفات‏.‏

وبالرغم مما يتمتع به عرفات‏,‏ فإن المحبين للقضية الفلسطينية‏,‏ والذين يضعون نصب أعينهم انتصار الفلسطينيين‏,‏ بإعلان دولة فلسطينية‏,‏ لم يمتنعوا عن نقد الرئيس‏,‏ وحثه علي تصحيح الأوضاع‏,‏ ونقل الكثير من سلطاته إلي حكومة متحررة‏,‏ ولذلك أيدنا محمود عباس عندما جاء رئيسا للحكومة‏,‏ وتصورنا أن ربيع أبومازن خطوة مهمة للمستقبل‏,‏ وغضبنا عندما فشل أبومازن‏,‏ وحملنا عرفات المسئولية‏,‏ وهو ـ لأنه كبير ـ تحملها فعلا‏,‏ ولم ينطق‏,‏ ولأنه يعرف أن المسئولية ضخمة والحمل ثقيل‏,‏ وأنه الوحيد القادر علي حمله‏,‏ سكت ولم ينقد أحدا‏,‏ واستمر في خطه‏,‏ زعيما للقضية الفلسطينية‏.‏

كانت الأخطار كثيرة‏,‏ والمشاكل معقدة‏,‏ والرجل واسع الصدر‏,‏ قادرا علي التحمل لا يشكو‏,‏ ويعرف أن تاريخه سوف يقول إن الحمل كان ثقيلا‏,‏ ولكنه قرر أن يتحمل المسئولية‏,‏ يتألم ولا يشكو‏,‏ حاملا الراية‏,‏ ورغم المشقة‏,‏ بقي متفائلا‏,‏ يري أن قضيته سوف تنتصر‏,‏ فهو يحاصر‏,‏ لكنه عندما يخرج علي الرأي العام تجده مبتسما واثقا من النصر‏.‏

قارنا بين عرفات ومانديلا‏,‏ ونسينا أن القضيتين مختلفتان‏,‏ رغم أنهما عادلتان‏,‏ فقضية الفلسطينيين ليست مثل قضية السود‏,‏ فالفلسطينيون يواجهون أعتي القوي نفوذا في عالمنا المعاصر‏,‏ ومن المعروف أن الريح والمناخ يسيران مع الأكثر قوة‏,‏ وسوف تثبت الأيام أن عرفات كان قائدا فولاذيا‏,‏ ولذلك تقف قوي كثيرة حتي لا يمر انتصار الفلسطينيين من تحت يديه‏,‏ ويحرموه من لذة النصر بعد طول المعاناة‏.‏

ولكن عرفات يعرف أن من يحرم من تذوق ثمرة كفاحه ونضاله‏,‏ يأخذ حصته أو مكافأته من الوزن التاريخي‏,‏ ولذا فعليه أن يستمر‏,‏ وأن تكون عيناه ليس علي نصرة الشخص‏,‏ إنما علي نصرة بلاده‏.‏

وصورة عرفات تتتابع أمام أعيننا عبر‏40‏ عاما‏,‏ من مقاتل إلي مناضل‏,‏ ثم إلي سياسي ومفاوض‏,‏ ينظم الخلايا ويدفع المقاتلين‏,‏ ويتحدث في الغرف المغلقة وأمام الميكروفونات‏,‏ ينظم ويحشد‏,‏ فشخصية بمثل هذه الملكات‏,‏ يجب أن نحترم أخطاءها في قضية صعبة‏,‏ ونقدر عناصر المناورة والدهاء‏.‏

لقد استمر عرفات بقضيته‏,‏ رغم اللحظات القاسية‏,‏ ولم يستطع شارون واليمين أن يهزما إرادة الشعب الفلسطيني بالمال أو القوة أو الجيوش‏,‏ ورغم كوارث حرب الإرهاب‏,‏ راحت القوة الإسرائيلية‏,‏ مع الضعف الفلسطيني تخلط الأوراق بين الإرهاب والمقاومة‏,‏ وتترك في الذهن العام رابطا بين بن لادن وعرفات‏.‏

ولكن القضية انتصرت‏,‏ وظل الشعب الفلسطيني‏,‏ القوي داخليا‏,‏ وصاحب القضية العادلة‏,‏ بارزا ورافعا رأسه‏,‏ ولم تستطع قوة المال والإعلام وتواطؤ اليمين الإسرائيلي مع المحافظين في أمريكا أن يخفوا الحقائق‏,‏ فالإرهاب بعيد عن قضية الشعب الفلسطيني‏,‏ وعرفات بقي مناضلا وثوريا وأخطاؤه هي أخطاء ثورة ونضال بعيدا عن الإرهاب‏,‏ وشتان بين قضية عادلة عاقلة وإرهاب جاهل مريض‏.‏

ومعركة عرفات الأخيرة ليست علي المرض وحده رغم قسوته‏,‏ وندعو له بالشفاء‏,‏ وذلك لأننا نريده رئيسا وقائدا‏,‏ فمازال هو الوحيد القادر علي إقناع شعبه الغاضب عن حق ـ بأن السلام سيكون دواء رغم صعوبة ابتلاعه والخوف من تأثيراته الضارة‏.‏

فهل يدرك كل المتربصين بمنطقتنا مخاطر غياب عرفات؟ بالتأكيد فالجميع يدركون‏,‏ لكن المتطرفين‏,‏ يريدون أن نندفع إلي حافة الهاوية‏.‏

لكن معركة عرفات الأخيرة مع نفسه‏,‏ وهي أن تتغلب حكمة الإنسان علي الأسطورة‏,‏ فينقل كثيرا من المسئوليات إلي رفاقه ومؤسسات الدولة‏,‏ فتخرج من رحم هذا النضال مؤسسة كبري تكون قادرة علي إقناع الشعب‏,‏ بكل فئاته وفصائله‏,‏ بأن مستقبلهم أصبح مرهونا بإدارة صراع السلام وبناء الدولة‏,‏ وألا يتركوا أنفسهم رهنا بالفوضي فهي لا تصنع الدولة ولا تبني الوطن‏.‏

والفلسطينيون اليوم مطالبون بالوحدة والتضامن والعقل وأن يكونوا علي قلب رجل واحد‏,‏ لأن قضيتهم ـ رغم انتصارها ـ مازالت في أول الطريق‏,‏ وأعداءها أقوياء‏,‏ والشعب الذي ولد عرفات فيه أبطال كثيرون‏,‏ فقضية فلسطين‏,‏ أرضا وشعبا‏,‏ أكبر من الجميع‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى