لا تنتظروا نتائج الإصلاحات سريعا

حدثت فى مصر تغييرات اقتصادية ملموسة تلك حقيقة لا مراء فيها ورغم قناعتى بأن هذه الإصلاحات ستكون لها نتائج إيجابية فإنه يجب أن يكون واضحا أن كل هذه السياسات الجديدة جاءت متأخرة جدا وبعد أن تفاقمت أوضاعنا. فمن الصعب أن يتصور البعض أنه سيكون لها تأثير فى وقت قريب فهى تحتاج الى تغيير مستمر ومتماسك وإلا تحولت إلى حالة محدودة تخفف فقط من الأزمة الأقتصادية ولا تحلها.
ولنبدأ بالاقتصاد والاستثمارات, فتخفيض الضرائب والجمارك وأسعار الأراضي لإقامة المشروعات الزراعية والصناعية, وطرح الشركات العامة والمشتركة للبيع والتخصيص, يصب مباشرة في تنمية الاستثمارات الخاصة, ولكن هذا ليس كل شيء.
فهناك أمور أخري مؤثرة في جذب الاستثمارات, أهمها تهيئة المناخ العام واحترام المستثمرين, وإنهاء الازدواجية في التفكير, والروح العدائية المتفشية لدي الدوائر الحكومية, بل لدي الشارع, ضد المستثمر الخاص والشركات العربية والأجنبية.
وهذه الروح مخيفة, وتشعر المستثمر بأن هناك حالة تتربص به مبدئيا, فهي لا تفهم أنه يؤدي وظيفة اقتصادية مهمة, وبدونها تغيب وظائف اجتماعية عديدة.
ولعل حالة إهالة التراب والتخويف المستمر من عمليات تخصيص الشركات, وتخارج الشركات العامة من الشركات المشتركة, تشير إلي هذه الروح, وتعكس حالة التربص بالتجربة الاقتصادية الوليدة, فهناك تهديد في كل مكان, بأن أموال البيع تضيع, ولا يعرف أحد أين تذهب, في حين أن أي اقتصادي, متخصص نسبيا, يعرف أن حجم الديون علي هذه القطاعات الاقتصادية العامة مخيف, وأن كل أوضاعها متدهورة, وأن الحكومة اليقظة هي التي تستطيع أن تتخلص من هذه الورطة الاقتصادية بأكملها, وتعيد تنظيم اقتصادها الداخلي علي أساس أن عملية إنتاج وتوزيع السلع والخدمات, يجب أن تتحول إلي القطاع الخاص المنظم, والذي يجب أن يمنح بدورة الفرصة, وألا ننظر إلي أي عملية بيع لشركة عامة علي أنها انتقاص من الثروة العامة, بل يجب أن ننظر إليها علي أنها إنقاذ, لتنتج منتجات صالحة للاستخدام المحلي وللتصدير كذلك, كما تخلق فرص عمل, وأيضا ينبغي ألا ننظر لكل مشتر سواء كان أجنبيا أم عربيا أم مصريا, علي أنه قناص للفرص أو انتهازي يسلبنا الغالي, فهو في النهاية اقتصادي ومنتج يحب بلده, ويريد أن ينمي من ثروتها ويحترم اقتصادها ويسدد الضرائب لخزانتها.
وإلي الذين يتساءلون متي نشعر بالإصلاحات الاقتصادية, أقول لهم بكل صراحة لن تشعروا بها, إلا إذا استطعنا هز عرش دولة الموظفين الكبري, التي نعيش في ظلها, فهناك7,5 مليون مصري يعملون في الحكومة والقطاع العام.
والحكومة أصبحت غير قادرة علي إعالتهم, أو زيادة دخولهم, فقد صاروا عبئا اقتصاديا ضخما, والأمل هو أن يتحرك القطاع الخاص, ويصبح قادرا علي توليد وظائف منتجة, عبر شركات خاصة قوية, تملك أساليب حديثة في الإنتاج والتسويق والعمل, لامتصاص البطالة من الأسواق, ويا حبذا لو قامت, بعد ذلك, بجذب أعداد إليها من هذا الجهاز البيروقراطي المخيف, بعد أن تحول إلي أداة لوقف الإنتاج والتنمية, وإشاعة مناخ من اليأس لدي الشعب.
أما القوي الحية في مجتمعنا فيجب أن تشارك في التحول الاقتصادي الكبير, ولا تنتظر فقط الشركات العربية والأجنبية, فرغم حاجتنا إليهما, فإن الرأسمال الوطني يظل هو المنوط بإعادة تنظيم صفوفه, بالتجمع في كيانات كبيرة قادرة علي العمل والتنمية معا, لكي نضرب المثل علي قدرة المصريين علي التجمع في شركات مساهمة جديدة, سواء كانت زراعية تنمي الدلتا والصعيد وتجمع الحيازات الصغيرة معا في كيانات كبيرة للتنمية المشتركة, أم شركات صناعية تحصل علي المدخرات الكبيرة والصغيرة, وتعيد تجميعها في كيان كبير, قادر علي إنتاج صناعي متميز ينافس المنتجات الصينية والآسيوية الرخيصة التي تغزو أسواقنا, وتهدد طموح المنتجين الوطنيين في رغبتهم الإنتاجية, وذلك حتي يستفيد الرأسمال الوطني من العمل الاقتصادي, علي أن تحفز الهيئات العامة والحكومة في مصر المستثمرين الصغار ليتجمعوا معا في كيان كبير, لشراء الشركات المشتركة المعروضة للبيع.
وفي هذه الحالة, إذا حدثت, ستكون فرصة نادرة, لكن يجب أن تعطي الحكومة للشركات الوطنية الاستثمارية, مزايا في الأسعار عند شرائها الشركات العامة والمشتركة, لتكون بديلا حيا وفعالا عن الحكومة لإدارة الاقتصاد الوطني.
فنحن نعيش في عالم يتميز بالتطور السريع من أجل عالمية الاستثمار والتجارة والمعلومات, ولا تستطيع دولة أن تنمو في هذا العالم المفتوح, إلا بتنمية مؤسساتها علي العمل وقدرة الأفراد والشركات فيها علي تقديم الخدمات, وإنتاج السلع علي مستوي يمكن من التنافس مع الخدمات والسلع التي تنتجها الدول الأخري, وهذا لن يتحقق بدون قيام شركات قوية بكفاءات وطنية.
ونحن نملك الأموال والكفاءات لقيام هذه الشركات, ولكننا لا نملك التنظيم القانوني الذي يحمي الحقوق, ويمنع أن يسرق مستثمر شريكه, كما أننا لا نملك أيضا نظما تنمي الأموال, وليس لنا تراث في العمل الجماعي بروح الفريق, والحكومات الخلاقة هي التي تخلق هذه الأساليب وتحمي هذه التجمعات والشركات.
وفرص التغيير في مصر كبيرة, ولكنها تحتاج إلي تطوير مستمر, والإصلاحات الأخيرة في كل المجالات, الضرائبية والجمركية والاستثمارية, والتحولات من الشركات العامة المشتركة إلي الخاصة والاندماجات في القطاع المصرفي, كلها تصب في هذا الإطار.
ولكن المشوار مازال طويلا, ويحتاج إلي تحولات عميقة في نظم التعليم والصحة, والبنية التشريعية, بل وفي حركة الشارع وانضباطه وسرعة العدالة وحسمها, والأهم في تعاون الناس والنخب وسقوط دولة الإعالة, والتحول إلي دولة الإنتاج والتعليم الحديث.
إنها عملية طويلة وصعبة ومعقدة ولا تتم بالقطعة, وتحتاج إلي المثابرة والعمل الجاد المستمر سنوات طويلة.