صدقوا مهاتير.. ولكن!

احتفت مكتبة الإسكندرية, عن حق واستحقاق, بالسياسي الماليزي المفكر الإسلامي مهاتير محمد, وعرضت تجربته في الحكم, واستمعت إلي روشتته السياسية والاقتصادية, وعلينا أن نصدقه, ونحن نسمعها منه بإمعان.
لأن كيمياء النجاح والتقدم والتحديث واحدة, رغم اختلاف ظروفها من مكان وزمان, وتختلف النكهة حسب طبيعة السياسي وكاريزمته, فإذا جاءت هذه المرة من سياسي يملك الرؤية الثقافية ويجيد مغازلة مستمعيه, فإنها تكون مثيرة, خاصة لنا نحن المستمعين في المنطقة العربية, فرغباتنا الداخلية تطغي علي حقائق الواقع, وتجعلنا نصدقها كما تقال من دون مناقشة أو وعي أو مقارنة.
فالتجربة الماليزية, رغم تميزها, ليست فريدة, فهي تجربة متكررة في النمور الآسيوية, وعمودها الفقري ليس نتاج عبقرية خاصة, إنما روحها أو معجزتها الواضحة, جاءت من تهيئة الظروف الداخلية, ودفع الثمن لاستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية, إلي قطاعات الاقتصاد المختلفة.
فهناك أموال طائلة, وشركات عالمية تتحرك في السوق العالمية, ومعايير جذبها أصبحت معروفة ومحددة, ولا تغيب عن فطنة أي سياسي أو اقتصادي في عالمنا المعاصر, والكل يعرفها, وتقولها المنظمات الدولية, وتعلنها المؤتمرات, ويعرفها الباحثون, ورجال الجامعات والمنظمات, وينشرها ممثلو الشركات والبنوك العالمية, وعنوانها: كيف تكون جزءا من الاقتصاد العالمي؟ وهذه الحقيقة أعتقد أنها لا تغيب عن أحد في عالمنا المعاصر.
وهذا لا يقلل من مكانة مهاتير محمد, فهناك فرق بين أن تعرف فقط, وبين أن تغير الحقائق علي الأرض, أي تجعل المعرفة مفيدة وتحولها إلي واقع, وتدفع ثمن التغيير بسياساتك أو بإرادة داخلية متكيفة معك, ومتحالفة أيضا, نحو تحقيق الهدف, وهذا هو ما حدث في ماليزيا, مثلما حدث في كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايلاند.
وإذا كان من حق صانع النجاح أن يعطي لتجربته نكهة خاصة وتميزا يمنحها التفرد, فإن المناقشة, والمكاشفة الموضوعية, والأرقام, والوعي بالحقائق, يجب ألا تغيب, فماليزيا نجحت وتقدمت, ولديها تجربة خاصة, وهذه حقيقة, ورفضت روشتة صندوق النقد والبنك الدوليين, وهذه حقيقة أيضا, أما إنها لم تتعاون مع المنظمتين الدوليتين, لتكون جزءا من الاقتصاد العالمي؟ فليست هذه حقيقة.
فهي من البلاد التي تعاونت مع المنظمات الدولية حتي تستقطب الأموال والاستثمارات العالمية, ولكن عندما حدثت أزمة اقتصادية في منطقة جنوب آسيا مع بداية عام1997, كان لدي مهاتير محمد تصور مختلف عن الصندوق الدولي للخروج من الأزمة, وحتي هذا الاختلاف لم يمنعه من المناقشة والتعاون مع المنظمات الدولية, حتي يقنعها بأساليب جديدة للخروج من الأزمة, ولم ينجح في هذا فقط, بل إنه أضاف بعض المتغيرات الاقتصادية لسياسات المنظمات الدولية, فأخذت عنه ونقلتها, كخبرة جديدة مكتسبة لمعالجة الأزمات.
وكانت ماليزيا قد نجحت في تطوير نظمها الخاصة بالتعليم والتدريب, ورفع كفاءة التنمية البشرية, بأسلوب سريع يتماشي مع احتياجات الشركات العالمية, ووفرت العمالة الماهرة, والمدربة, فالحفاظ علي مستوي متقدم في جدول الدول الجاذبة لرؤوس الأموال والاستثمارات العالمية, يستلزم مستوي ونوعية من التدريس والمناهج المتقدمة, واعتناق قيم العمل العالمية.
ولا نريد ولا يجب أن نسميها قيما غربية أو شرقية, لأن قيم الانضباط الشديد وإخلاص العامل لصاحب العمل سواء كان شركة أم فردا, هي قيم أولية للتقدم, تعتنقها البلاد الراغبة في أن يكون اقتصادها مؤثرا, لتحقق مستوي معيشة مناسبا للعمالة, وذلك موجود في ماليزيا واليابان وكوريا مثلما هو موجود في أوروبا وأمريكا.
وعندما نضيف أبعادا أخري موضوعية إلي تجربة ماليزيا بدون الإغراق في إعطاء مزايا من عندنا عن الموهبة والعبقرية والحكم الرشيد, فيجب عند مقارنتها بمنطقة الشرق الأوسط أن نراعي أن الأخيرة تجري في رحاها الآن حرب عالمية, لمقاومة ظاهرة الإرهاب الدولي, التي تفشت في المنطقة, وكان من تأثيرها هروب رأس المال, وغياب التعاون الدولي, كما كان لاستمرار القضية الفلسطينية بلا حل وعودة الصراع العربي ـ الإسرائيلي, تأثير كبير علي مكانة المنطقة من حيث قدرتها علي جذب الاستثمارات الأجنبية.
فليس لتأخر اقتصادات الشرق الأوسط عن اقتصادات جنوب شرق آسيا, أسباب محلية أو داخلية خاصة بالإصلاحات فقط, ولكن للأمر بعده الإقليمي المرتبط بالصراعات العالمية, وبظروف الصراع مع إسرائيل.
فقد كان من الممكن بالنسبة لمصر أن تحدث تحولا اقتصاديا مؤثرا, بشروط قاسية, سياسيا واقتصاديا وبثمن فادح, وذلك علي صعيد أن تترك كامل مشاكل المنطقة السياسية, وتجعل الحل لمشكلتها السياسية مع إسرائيل حلا منفردا, وليس حل المشاكل السياسية مع باقي الدول العربية, وكان تبني مصر للقضايا العربية للصراع العربي ـ الإسرائيلي إشارة للشركات العالمية والاستثمارات الأجنبية بتأجيل اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط, باعتبارها منطقة غير مؤهلة لاستقبال استثمارات كبري مثل مناطق أخري في شرق أوروبا وجنوب وشرق آسيا, وكان لهذا القرار السياسي ثمن دفعته مصر من أجل القضايا القومية.
ونحن هنا لا نقلل من دور مهاتير في ماليزيا, ولكننا نريد أن نبين حركة الاقتصاد العالمي والاستثمارات الأجنبية وظروف الأسواق العالمية.
وماليزيا تعتبر نموذجا مثاليا للدول العربية والإسلامية, لأنها أصبحت مهيأة سياسيا وديمقراطيا, كما أن أوضاعها الاقتصادية مستقرة, وآليات السوق فيها تعمل بكفاءة, وتدخل الدولة في إدارة الاقتصاد لا يغفل التوازن الاقتصادي الدولي, ولا يتجاهل حقائق السوق العالمية.