النجف.. والسيستاني

حينما تستحكم الحلقات, ولا يجد الإنسان مخرجا من الكوارث الكبري, تبرز الآيات, وقد حقق آية الله السيستاني(74 عاما) يوم الجمعة17 أغسطس2004, حدثا استثنائيا, يخرج عن طبيعته الشخصية, المتسمة بالهدوء في تحقيق أهدافه بالتراكم, وليس بالقرارات الحاسمة, أو الخارجة عن المألوف, عندما أعلن عن وصوله إلي النجف الأشرف, وطالب العراقيين بمقابلته, يوم الخميس, يوم وصوله من لندن إلي البصرة والكوفة في مسيرة النجف, لوقف الحرب في المدينة وعودة السلام, وصلاة الجمعة حول مرقد الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ وفي الصحن الحيدري, لكي تعود الحياة الآمنة إلي العراقيين.
كانت خطوة شجاعة, ظلت في مخيلة الجميع, ومن يعرفون السيستاني لم يصدقوا أن يتخذ قرارا دراماتيكيا صعبا, ويسير في مظاهرة, لينشر السلام علي المدينة, ويعيد العقل إلي مقتدي الصدر وجماعته, ويفرض علي الحكومة العراقية ورئيسها إياد علاوي, احترام السياسة, ومعرفة أنها تحكم في ظروف استثنائية وانتقالية, وأنها تحت سطوة احتلال أجنبي, وسلاحها وقواتها من محتلين وغزاة, ومن واجبها كحكومة أن تبين لهم حرمة الدم العراقي, واحترام المقدس ومعرفة الخطوط الحمراء وعدم تجاوزها, مهما تكن الظروف.
أما قوات الاحتلال الأمريكي هي الأخري فتابعت حركة آية الله بالتوجس متصورة أنها يمكن أن تفشل, فتفتح شهية آلتها العسكرية لتسير في الطريق الخاطيء, الذي يجلب الكوارث, ولكن الله سلم, وكلل مشروع السيستاني بالنجاح, فتوقفت النيران.
وجاءت الصورة مؤثرة للغاية, لم يستطع أي مسلم مخلص أن يحبس دموعه, وهو يسمع صوت مقتدي الشاب الطموح ينادي بالسلام, ولأنه ابن لعائلة محترمة, لم يهزمه طموحه, وقلة حيلته, وضعفه السياسي وغياب الرؤية لديه, ولكنه بحسه الديني بوطنيته الصادقة, هزم نفسه الأمارة بالسوء, وأمسك بـ الميكروفون عقب صلاة الجمعة, وقال لأتباعه الفقراء والمهمشين والضعفاء والجهلاء, كما سماهم مقتدي نفسه, الذين يبحثون عن الخلاص, ويصدقون ابن عائلة الصدر الكبير: اتركوا السلاح واخرجوا آمنين.
فوجدنا الشباب العراقي الغض, يضع سلاحه علي عربة خشبية لتذهب بعيدا, ليعود السلام إلي النجف, وتصان العتبات المقدسة من تدنيس الأجنبي, إنها صورة مذهلة, وجدت نفسي أشعر بالامتنان بعدها لآية الله السيستاني, ورأيت أن تحيته واجبة, وأنا أقدم له اعتذاري, لأنه في اليوم السابق علي مبادرته, كنت في حديث تليفزيوني, وتناولت موقف السيستاني المحايد بين مقتدي والحكومة وقوات الاحتلال, وشخصت هذا الموقف بأنه قد يكون طبيعيا, في ظروف عادية, ولكن عندما تشتعل النيران, ويصبح هناك صراع محتدم يكون هذا الموقف خاطئا, قد تفقد به المرجعية مصداقيتها, وتسلم قرارها للمغامرين.
وكان الخوف من استمرار الحرب في النجف هو أنها سوف تحمل في التاريخ الإنساني رمزية ضرب المقدس, كما تحمل في طياتها بذورا للإرهاب, لكي يشعل صراعا لا يتوقف بين الحضارات والأديان.
وكأن ما كنت أفكر فيه وجد صدي لدي آية الله السيستاني, فكانت مبادرته الناجحة, التي سوف تجنب العراق والمنطقة ويلات كثيرة, بعد أن أصبحت حرب العراق وقودا للخوف, يصنع مناخا مؤلما لشعوب المنطقة, خاصة أن العدوان الإسرائيلي علي الشعب الفلسطيني لم يتوقف منذ سنوات, ويتصاعد خالقا جدارا سميكا من عداء, لا نظير له, لنعود إلي حالة بغيضة من الصراع بين الشرق والغرب, فقد حمل يوم السبت21 أغسطس2004, ذكري مؤلمة ونذيرا للشؤم والتوجس, لأن الضربة الأمريكية التي أصابت صحن ضريح الإمام علي بالنجف الأشرف, ذكرت العالم الإسلامي, بيوم حريق المسجد الأقصي في نفس مثل هذا اليوم21 أغسطس1969, الذي ارتكبه متطرف إسرائيلي في مفارقة تاريخية بعد35 عاما!
ولكن ليس هذا كل شيء في معركة النجف فقط, إنما كان لوقعها مرارات, لأن رحاها تدور بين مرقد مقدس, ومقابر تاريخية, وضحاياها تجاوزوا الآلاف من موتي ومصابين, وأصبح رجال الدين هم القادة, ومقتدي إماما, ولكنها لم تكن معركة بين عائلتين إيرانيتين, كما قيل, لأن الصدر الكبير وأخيه وأسرته لهما نفس طبيعة السيستاني وأسرته, فالجميع من أصول إيرانية, قدموا إلي العراق في الخمسينيات من القرن الماضي, واستوطنوا فيه سنوات طويلة, ويستحقون شرف المواطنة العراقية والعربية.
ومع ذلك استشعر السيستاني, مخاطر ما يحاك ضد العراق, وطنه الحالي, عندما استقبل أثناء وجوده للعلاج في لندن وفدا إيرانيا رفيعا من شخصيات كبيرة, تمثل مختلف التيارات السياسية الدينية الإيرانية طالبته بالتدخل بدور لطهران في العراق, مستغلين ظروف الاحتلال والضعف العراقي العام ووضع المنطقة الحساس, وللحقيقة فإن الرجل رفض, بل حدثت مشادة سمعها الكثيرون, وتردد صداها وسط العراقيين والإيرانيين في لندن.
ولأن حركة السيستاني السياسية والدينية, نابعة من ضميره الوطني والديني الصحيحين, وقف ضد أي تدخل خارجي في شئون العراق, خاصة من إيران, حماية لهذا البلد المبتلي بالاحتلال الأمريكي, وتداعياته الخطيرة, فهو لا يحتمل تدخلا خارجيا آخر, حتي ولو بالاشتباه في أن يكون تيار الصدر مسلحا من الخارج, لإفشال تجربة سياسية تجري الآن في العراق لبناء نظام سياسي جديد يستطيع إنقاذ البلاد من تداعيات الحرب والاحتلال ومخلفات الديكتاتورية والحكم الصدامي.
ولكن ظروف العراق الصعبة الآن تحت الاحتلال والاضطرابات والفوضي والجيوش الصغيرة التي تكونت بأسماء دينية مختلفة, علي غرار جيش مقتدي المسمي بالمهدي, تحكي للعرب أسطورة الارتهان والخوف من الديكتاتورية, فهي تجلب التدخل الخارجي, ولعله درس قاس يجب أن نعيه جميعا, لنعمل علي بناء نظم سياسية وديمقراطية تحمي شعوبنا من الفوضي والإرهاب.
ويجب أن يكون درسا كذلك للذين يرسلون لنا نصائح بأن الأنظمة الحاكمة باسم الدين, لن تتدخل في شئوننا باعتبارها صديقة, وتقف معنا في خندق واحد لحماية القضية الفلسطينية, لأن مخاطر الأنظمة المتطرفة واحدة في كل مكان!!.