مقالات الأهرام اليومى

دارفور‏..‏ والإصلاح الشامل في السودان

دخلت منطقة دارفور في غرب السودان‏,‏ وهي منطقة حساسة‏,‏ في حزام الكوارث‏,‏ لتشكل حلقة جديدة‏,‏ في مربع دام يحيط بالشرق الأوسط كالمعصم‏.‏
فبعد تفاقم الأزمة الفلسطينية‏,‏ واستعصاء الحالة الأمنية في العراق‏,‏ فإن السودان كان مرشحا للخروج من مآسي الحروب‏,‏ عقب توقيع الاتفاقيات مع الجنوب‏,‏ فإذا بالاضطراب يعود في الغرب‏,‏ وفي منطقة تشكل خمس مساحة السودان‏,‏ لتتداعي أوضاعه ويقترب من نموذج الصومال‏.‏

ومع الأسف فإن هناك كوارث كانت كامنة‏,‏ وقد تفجرت الآن‏,‏ أما غيرها فمازال تحت الرماد‏.‏
وحتي لا نخطيء كثيرا‏,‏ فإن أسلوب المعالجة لأزمة دارفور مازال يبتعد عن الحقائق المعلومة بالضرورة‏,‏ ويركز فقط علي مخاطر التدخل الخارجي‏,‏ وهي بالفعل ليست هينة‏,‏ فهي قد تفجر هذه المنطقة الصعبة‏,‏ المليئة بالقبائل والعشائر والملل والنحل والأعراق‏,‏ وإذا انطلقت منها النيران‏,‏ فلن تتوقف‏,‏ وستكون مسرحا خصبا لجذب كل عناصر التطرف والإرهاب مما ينذر باشتعال شامل في المنطقة‏.‏

وإذا كان هذا التدخل صعبا الآن‏,‏ فإن مبررات وجوده ليست ضعيفة علي الإطلاق‏,‏ ويجب علي الحكومة السودانية ألا تراهن علي هذه الصعوبة‏,‏ وتبدأ فورا ودون تأخير‏,‏ في معالجة أزمة التمرد في دارفور‏,‏ بنفس أسلوب السياسات التي تعاملت بها في الجنوب أخيرا‏.‏
فالحكومة المركزية أصبحت لديها خبرة في التفاوض‏,‏ ونجحت في الوصول إلي اتفاقيات مع الجنوب‏,‏ وهذه الخبرة تؤهلها الآن إلي حل أزمة الغرب‏,‏ خاصة أنها يجب أن تعي أن هناك مناطق أخري ملتهبة في الشرق‏.‏

ولكي تنجح الحكومة المركزية في تجاوز كوارث السودان أو صوملته وتفككه‏,‏ عليها أن تسارع بإشراك جميع السودانيين‏,‏ وقواه الحية وأحزابه الشمالية في الداخل والخارج‏,‏ وتحملهم جميعا المسئولية‏,‏ لصياغة دستور جديد للبلاد‏,‏يفتح المجال أمام تحديث السودان وديمقراطيته يساوي بين جميع المواطنين‏,‏ حتي تظهر في السودان دولة للقانون‏,‏ تفصل بالكامل بين الدين والدولة‏,‏ وتعمل علي تحديث هذا البلد الغني‏.‏
وستكون إجراءات معالجة التمرد في دارفور‏,‏ وتوفير الأمن والإغاثة لجميع السكان‏,‏ هي البرنامج الحي للحفاظ علي وحدة السودان بأطرافه الأربعة‏,‏ فالاتفاقيات مع الجنوب‏,‏ حتي تنجح وتتبلور‏,‏ لن تتحقق بدون بروز دولة حديثة تشارك فيها كل النخب السودانية‏,‏ بعد اكتسابها خبرات متراكمة‏,‏ تصب في صالح السودان ككل‏,‏ لأن الحكومة الراهنة تنقصها هذه الخبرة التراكمية لعموم السودان‏,‏ وأما النخب السودانية نفسها سواء منها من في الحكم أو خارجه‏,‏ فعليها أن تدرك أنها أمام لحظة فارقة‏,‏ إما أن يستمر السودان كما عرفناه‏,‏ أو يتفكك‏.‏

وأعتقد أن حكومة السودان الراهنة ستدرك أن حكم السودان في المرحلة المقبلة سيكون خطيرا‏,‏ وأن التاريخ لن يرحم الذين تصارعوا علي السلطة‏,‏ في وقت الانهيار الداخلي‏,‏ وساعة التقسيم الحقيقي‏,‏ فحكم السودان اليوم وغدا لم يعد مغنما ولكنه أصبح مسئولية ومخاطرة‏,‏ ويجب ألا يتصدي له إلا القادرون‏,‏ فالانقسام الحالي داخل الأحزاب المعارضة في الشمال لا يبشر بالخروج من الأزمة أو الكارثة‏,‏ في وقت يحتاج فيه السودان إلي مؤتمر يضم جميع السودانيين لصياغة شكل الحكم المستقبلي فيه‏,‏ علي أن يرعاه الحكماء‏,‏ وهم كثيرون‏,‏ ممن لا تغريهم السلطة أو يبحثون عن مغانمها‏,‏ وهذا المؤتمر يضع ضوابط لحركة المجتمع‏,‏ ويقدم ديمقراطية حديثة‏,‏ جربها السودان وعرفها في السابق جيدا‏,‏ فمصلحة السودان يجب أن تكون أولا‏.‏
وحتي تكتمل الحلقة‏,‏ ويتم تصحيح المسار‏,‏ فإن الأشقاءالعرب‏,‏ من خلال الجامعة العربية‏,‏ عليهم أن يساعدوا السودان بشكل مناسب‏,‏ لتتمكن حكومة قوية فيه من عمل إصلاحات اقتصادية لكل أقاليمه‏,‏ وهذا هو الحل النهائي لمستقبل السودان‏,‏ الذي ينبغي أن يبنيه جميع أبنائه بمساواة كاملة‏,‏ وذلك طريق وحيد سوف يجعل المرحلة الانتقالية‏,‏ من اتفاق اقتسام السلطة بين الجنوب والشمال‏,‏ تنتهي بدولة موحدة بعد السنوات الست المقبلة‏,‏ و دخول هذا الاتفاق حيز التنفيذ‏.‏

ومن هذا المنطلق يجب أن يكون السودان الموحد‏,‏ هدفا لجميع السودانيين‏,‏ وألا تؤسس اتفاقية اقتسام السلطة بين الشمال والجنوب‏,‏ لمبدأ التقسيم‏,‏ فالمرحلة المقبلة خطيرة علي مستقبله‏,‏ وبالتالي علي أبناء السودان أن يكونوا ملتزمين بحماية وحدته في ظل نظام سياسي حر وديمقراطي‏,‏ يحظي باحترام جميع السودانيين‏.‏
وإذا أدركت حكومة السودان المخاطر التي تكتنف البلاد‏,‏ وخرجت من حالة التناحر الداخلي‏,‏ سوف تفرض علي العالم كله احترامها‏,‏ وسوف تستطيع في هذه الحالة محاصرة الأزمات‏,‏ فتعالج قضية دارفور ببساطة‏,‏ وتصبح بداية المحافظة علي وحدة السودان‏.‏

أما المجتمع الدولي وفي مقدمته أمريكا‏,‏ فإنه يجب أن يدرك أن التدخل الخارجي في غرب السودان‏,‏ سيكون كارثة محققة‏,‏ وسيشعل منطقة حساسة في إفريقيا‏,‏ فهي مجاورة لدولتي تشاد وإفريقيا الوسطي‏,‏ فقد تشتد الحروب وتصب في النهاية في صالح قوي التطرف والإرهاب‏,‏ بأخطر مما حدث في العراق‏,‏ لأن محاصرة منطقة فقيرة وبدائية ومهيأة لحروب أهلية قد لا تتوقف‏,‏ سيكون مرهقا ومكلفا للمنطقة والنظام العالمي الراهن‏,‏ ولن يخدم ذلك أهالي دارفور بل سيكونون هم وأهل السودان جميعا أول المضارين‏.‏
فالجنجويد‏(‏ميليشيات التطرف والإرهاب‏)‏ في دارفور‏,‏ هم مثل أسامة بن لادن‏,‏ والظواهري‏,‏ والزرقاوي‏,‏ قد يكونون شخصيات حقيقية‏,‏ ولكنهم ترجمة لأخطاء سياسية‏,‏ وفقر وتراكم من المشاكل‏,‏ مما يدعونا لمعالجة أسباب الكوارث الحالية‏,‏ وتجفيف الصراعات بالمساندة في الإصلاحات السياسية والاقتصادية‏,‏ وليس بفتح جبهات جديدة لحروب لا تنتهي‏,‏ فهي تضر بالجميع خاصة الأغنياء والأقوياء في عالمنا المعاصر‏,‏ وأولهم الدولة الكبري‏,‏ صاحبة المصلحة في الاستقرار‏,‏ ومعالجة الأخطاء والمشاكل المتراكمة‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى