محاكمة صدام.. وجماعته

هز توجيه الاتهام إلي صدام حسين وجماعته الوجدان العربي بأكمله, وبدا وكأنه غير مصدق أن تلك الجماعة, التي حكمت العراق بالديكتاتورية الكاملة, بمقاييس القرون الوسطي, يمكن أن تقف أمام القضاء لتسأل وتحاكم, وتوجه إليها الاتهامات, ثم تعاقب وتتحمل مسئولية أفعالها.
وظل الذهن العربي, الذي تعود علي الهروب والخوف من المواجهة, محاولا تجنب الحقيقة, فوجدنا البعض يبحث عن التبرير, ليحافظ علي بعض معتقداتنا, لتقف هذه الأخيرة ضد التغيير الذي نبحث عنه.
لكن هناك حقيقة يجب أن نقبل بها, وهي أن صدام الديكتاتور الحاكم أصبح محكوما, وأنها المرة الأولي التي لا يقتل فيها الحاكم فور سقوطه, أو يسحل في شوارع بغداد أو أية عاصمة أخري.
والآن أخذنا فرصتنا وشاهدنا الحقيقة مجسدة ورأيناه قبل أن يذهب بعيدا, وقد تجرد من السلطة, وجنوده الذين كانوا يحمونه أصبحوا يقدمونه إلي قاضيه, ليواجه اللحظة العارية, وهي أن السلطة زائلة مهما عاشت, وأن مصير الحاكم المحتوم هو المحاكمة, أمام التاريخ وأمام شعبه في حياته أو بعدها.
ونحن أمام مشهد جديد, محاكمة مباشرة حية علي الهواء, والمتهم هو النموذج الأمثل, الذي لم يخف المحكومين العراقيين وغيرهم فقط, بل كان يؤثر وأحيانا يخيف, الحكام العرب ويخترق مؤسساتهم.
ومثل غيري شاهدت المحاكمة المبدئية ويتنازعني رفضي الداخلي القوي للديكتاتورية ورغبتي في محاكمتها وفضحها أمام نفسها, ولدي الرأي العام في مشهد كالذي يحدث أمامي, بالرغم من أن موروثاتي القديمة كانت تدفعني إلي مراعاة مشاعر عزيز قوم يذل ويحاكم, وهي صورة داخلية غامضة, ليس سهلا علي من عاش في الشرق أن يتجاوزها بسهولة.
لكن هذا الحدث المثير, والصعب والمتفرد, يجب علينا أن نستوعبه, ونفهمه, وندرك معانيه, ومغازيه, حكاما ومحكومين, فصدام حسين لم يكن حاكما عاديا أو ديكتاتوريا فقط, فجرائمه مريعة وكثيرة, وحسابه عليها صعب لطول سنواتها, وترسخها وخروجها علي المألوف والطبيعي, وسوف أعذر قضاته, فأمامهم جرائم كثيرة قاسية ومتنوعة, يعجز العقل البشري عن استيعابها, فكيف تفرزها وتحصرها المحاكمات العادية.
وكان يجب تقسيمها وتجزئتها علي مراحل, ومحاكم متعددة الألوان والدرجات, لأن جرائمه متشعبة وغريبة, ويجب أن يقدم بسببها إلي عدة محاكمات, محاكم عادية في العراق, ثم إقليمية, ودولية, وأخري ضد الإنسانية وتخريب المجتمعات والشعوب, وقتل المواطنين, وتدمير الإنسان سنوات طويلة, ثم للسقوط الشامل.
وتلك هي حقائق عصر صدام حسين ورجاله ببشاعته التي يصعب تصورها أو تصديقها, فأي عقل عندما يتمعن فيها, بعد فترة, سوف يتصور أن العقل البشري الذي يكتب عن هذه الجرائم ويذكرها للأجيال المقبلة قد دخل في عالم الخيال لا الحقيقة.
لكن, ونحن أمام الحدث المثير الذي لا يمكن لأحد أن يتجاهله, لعل محاكمة صدام حسين ورفاقه, وكل صدام, وعزيز, والكيماوي, وأمثالهم فرصة ثمينة للجميع لمتابعة المحاكمات حتي نراهم علي نطاق واسع, في صورة درامية, كعبرة تعليمية واضحة, لأن محاكمة هذا النموذج المتفرد في الديكتاتورية, في هذا الوقت الحساس, الذي تمر به منطقتنا العربية, سيكون لها هدف نبيل, رغم صعوبتها وشدتها, وهو أن يقتل كل واحد فينا الديكتاتور داخله, ويهزمه إلي غير رجعة.
وصدام حسين لم يكن وحده, لكنه مرض منتشر, وكامن في تربتنا وتخلصنا منه لا يعني شفاءنا من هذا الخطر, فنحن نحتاج إلي أن نأخذ وقتا من الدراسات والأبحاث لرصد هذا الخطر في بعض نفوسنا, لإدراك مخاطر الديكتاتورية, متنوعة الدرجات والأشكال, حتي يمكن مواجهتها, لأنها موجودة في كل بلادنا, ويجب أن نحد من الاحتفاء بها, ثم كشفها وازدرائها وتهميشها من داخل أنفسنا ومجتمعاتنا, إلي أن تختفي وتذوي, ويموت أصحابها ومريدوها وأتباعها, لأنها مرض ضد الحضارة والإنسانية والتقدم, ولا يمكن لشعوب أو مجتمعات تعطي, ولو بنسبة ضئيلة, للديكتاتورية والخوف من القمع, احتراما, وتستطيع أن تحقق النجاح, أو تكون عضوا إيجابيا ومؤثرا في هذا العالم المعاصر.
هناك مفردات جديدة وصحوة مختلفة, في منطقتنا العربية, إذا أرادت أن تخرج من كبوتها وتهميشها وضعفها بعد تساقط الديكتاتورية, وهي أن تنقد نفسها نقدا صحيحا ومفتوحا وواسعا, وتكشف عن أخطائها بحرية ووضوح, وتبرزها وتصححها دون خوف أو تجميل للذات, حتي تتطور مع الزمن, فتسقط الأخطاء بعيدا عن الركون إلي نظريات تآمر الآخرين علينا, ونحن أول من يتآمر علي أنفسنا.
والآن أمامنا فرصة أخيرة هي أن تتجمع النخب المثقفة والواعية, من الحكام والمحكومين, لنقضي علي الديكتاتورية والإرهاب في منطقتنا, ونعيد إحياء قيم العمل واحترام الإنسان وحقوقه وحريته, ولا نتسلط عليه بحجج ووسائل مختلفة حتي ولو كانت قوية مثل القومية أو فهمهم للدين.
ولنؤمن بأننا في عصر الإنسان وحريته, ولن يستطيع أحد أن يقف ضد حقوقه تحت أي مسميات أو دعاوي, وإذا لم نستطع أن نتجاوز أزمتنا سريعا, ونعالج أمراضنا المتوطنة, فسوف تظل مجتمعاتنا وبلادنا ساحة لضرب النيران وعدم الاستقرار, والأخطر أن القوي الدولية سوف تحاصرنا وتحاربنا بكل الوسائل, بينما تبقي مجتمعاتنا منقسمة علي نفسها وضعيفة, وتقبل بالهزيمة.